في المقال السابق، تم التطرق إلى جانب من عظمة الحضارة الإسلامية في الأندلس وصقلية؛ ألا وهو فن العمارة، الذي ما زالت آثاره شاهدة إلى اليوم على هذه العظمة، بالرغم من عملية التشويه التي طالت بعض المعالم البارزة ذات الطابع الديني؛ مثل مسجد قرطبة، والمسجد الكبير بإشبيلية.
وفي هذا المقال، نستعرض جوانب أخرى مهمة من الحضارة الإسلامية في كل من الأندلس وصقلية، تتعلق بالتطور العلمي في العلوم الكونية والإنسانية.
تطور العلوم الكونية والإنسانية
من أبرز مظاهر الحضارة الإسلامية في أوروبا تطور العلوم الكونية والإنسانية في مجالات شتى؛ من الطب والصيدلة إلى الفلك والحساب والفلاحة وإلى الفلسفة والتاريخ وكل ما يحتاج إليه الإنسان في حياته اليومية، فكانت الحياة العلمية مزدهرة في البلاد التي فتحها المسلمون وخاصة الأندلس وصقلية.
تعمير الأرض
كما تطورت فنون الصيدلة والتداوي بالأعشاب، وازدهرت العلوم النباتية والزراعية بما أثر على الإنتاج الفلاحي والمحاصيل الغذائية وصناعة النسيج الحريري وانتشار الحدائق الغنّاء(1).
أما فتح جزيرة صقلية وجنوب إيطاليا فكان من نتائجه بصمات حضارية شاهدة إلى اليوم أيضاً، حيث أحدث المسلمون هناك نهضة عمرانية واقتصادية، واعتمدوا سياسة الإصلاح الزراعي؛ مما أسهم في زيادة الإنتاج الزراعي، وطوروا أيضاً نظام الري، وأدخلوا زراعات جديدة مثل البرتقال والليمون والفستق وقصب السكر والنخيل، وطوروا الملاحة البحرية بعد أن تحول المتوسط إلى منطقة إستراتيجية تحت حكم المسلمين.
سبر أغوار الكون
وبرع في مجال الفلك في ظل الحضارة الإسلامية في الأندلس عدد لا يحصى من العلماء، على رأسهم العالم أبو القاسم المجريطيّ، صاحب كتاب «رسالة في الاصطرلاب»(2).
أما العالم عباس بن فرناس، فكان أول من حاول الطيران، وكانت النظارة الطبية بهيئتها البسيطة من أهم اختراعاته، بالإضافة إلى اختراعه للساعة المائية، كما أنّه كان أول من استخدم الحبر في القلم؛ ممّا يدلّ على سعة علمه وحدّة ذكائه.
علم الطب وصناعة الأدوية
ازدهر علم الطب وصناعة الأدوية من الأعشاب الطبية وكيفية العلاج باستخدامها نتيجة لوجود العديد من العلماء المسلمين الذين اهتموا بالطب، وما زالت آثارهم العلمية ماثلة حتى عصرنا الحالي ونراها واضحة في بعض كتبهم الطبية.
فقد بلغ الطبّ مبلغاً عظيماً في الحضارة الإسلامية في الأندلس أثناء القرن السادس الهجري، وظهر أطباء موسوعيون يجمعون بين الطب والفلسفة وعلم النفس، وطوروا الطبّ الباطني والطب الوقائي، ومن أشهر الأطباء المسلمين أبو القاسم الزهراوي الذي يوصف بـ«أبو الجراحة الحديثة»(3).
أعظم مساهمات الزهراوي في الطب كتابه «التصريف لمن عجز عن التأليف» الذي يعد موسوعة طبية من 30 مجلداً.
التجارة
نشطت الحركة التجارية مع بلاد جنوب البحر المتوسط (بلاد المغرب وأفريقيا، وكذلك مع المشرق الإسلامي)، وكانت المدن الإسلامية في صقلية والأندلس بمثابة الأسواق الدولية في الوقت الحاضر، كما شهدت الموانئ تطورًا كبيرًا مع تطور صناعة السفن، من بين الإنتاج الرائج الخشب، وخيوط الحرير وزيت الزيتون، ويستقدم التجار من أفريقيا والمشرق مختلف أنواع البضائع كالتوابل والصوف والحبوب، وازدهرت تجارة الكتب والمؤلفات بين الأندلس والمغرب مع انتقال أعداد كبيرة من علماء المشرق للأندلس أو العكس.
ويُعدّ تعريب النقود من أهم مظاهر الحضارة الإسلامية في الأندلس، وظهر أول دينار تمّ تعريبه عام 102هـ أثناء فترة الوالي السمح بن مالك الخولانيّ، بعد أن قام القائد موسى بن نصير، بعد الفتح الإسلاميّ بضرب عملة برونزية وعملة ذهبية لمنح الجنود رواتبهم.
الأدب وحركة الترجمة
شهد الأدب ازدهارًا كبيرًا بشقّيه النّثري والشّعري في مختلف العصور السياسية الأندلسية، ومن أهم الأدباء الذين اشتهروا في فنون النثر من خطابة ومناظرة وغيرها ابن عبد ربه صاحب كتاب «العقد الفريد»، وابن الشهيد صاحب «رسالة التوابع والزوابع»، وابن سيدة صاحب «شرح مشكل أبيات المتنبي»، ومن أشكال الأدب الرسائل المتبادلة بين الأدباء والسلاطين والوزراء، وبرع الأندلسيون بالشعر التعليمي ووصف الطبيعة، كما برزت في ظل الحضارة الإسلامية في الأندلس مراكز كبرى في حركة الترجمة كطليطلة وإشبيلية.
الانفتاح الحضاري والتعايش
ومن مظاهر الحضارة الإسلامية في الأندلس وصقلية التعايش بين مكونات المجتمع، حيث تمازج المسلمون عمومًا مع المكوّن الأوروبي تمازجًا كبيرًا في الأندلس مثلاً مع الإسبان والقوط والرومان والفاندال والجرمان، وجماعات من اليهود ومن غير اليهود استفادوا جميعهم من الفتح الإسلامي الذي أعاد لهم حقوقهم التي نهبها حكام الدولة القوطية، ونتج عن تزاوج المسلمين من العرب والبربر بالإسبانيات عنصر جديد يدعى بالمولّدين، وقد شكّل مع الوقت القسم الأكبر من السكان.
وكانت حصيلة هذا الاندماج احتكاكًا كبيرًا ومتميزًا بين الديانات والثقافات على نحوٍ فريدٍ ليس له مثيل، ولم تنقطع العلاقات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية مع الشعوب الأوروبية رغم الحروب البرية والبحرية الطويلة.
العلوم الدينية والشرعية
ازدهرت العلوم الدينية والشرعية في صقلية والأندلس، وكان أهل صقلية يبجّلون المعلمين، ويرونهم أنهم أعيانهم ولبابهم وفقهاؤهم ومحصلوها وأرباب فتاويهم وعدولهم، وبهم يقوم الحلال والحرام وتُعقد الأحكام، وتنفّذ الشهادات وهم الأدباء والخطباء، كما يقول ابن حوقل.
وكان من بين نتائج تعايش المسلمين في ظل مجتمعات أوروبية متعددة الأديان مظاهر التسامح الديني الذي لم يُعرف له مثيل عبر التاريخ الإنساني، هذا التسامح الذي هيأ أجواء الإبداع الفكري الجدلي النقدي لدى مسلمي الأندلس، ومن ثم نشأة علم جديد ألا وهو «علم مقارنة الأديان»، حيث إن الحضارة الإسلامية لها الفضل الكبير في ظهور هذا العلم وتطوره، وأن علماء المسلمين سبقوا علماء الغرب في كثير من مواضيع هذا العلم وقواعده وأصوله، وأن دراسة علماء المسلمين للأديان (ومنهم البيروني) لم تكن دراسة عشوائية وعبثية، بل كانت قائمة على أصول علمية محكمة، كما أظهر علماء الأندلس براعة منطقية في الدفاع عن الإسلام، وردّ مطاعن أعدائه.
حضارة علمية وعمرانية في حوض المتوسط
تركت الحضارة الإسلامية في الأندلس وصقلية آثارًا كبيرةً في مجموع الحياة الثقافية والعلمية الأوروبية، فضلًا عن الأمور الإدارية والسياسية والعسكرية والحضارية والفنية، وتأثرت اللغة اللاتينية بمفردات لا تحصى من اللغة العربية مع تعلّم عدد الكبير من الطلاب الأوروبيين العلوم باللغة العربية ونقلوها إلى بلدانهم، وأشعت الحضارة الإسلامية في منطقة حوض المتوسط قلب العالم في ذلك الوقت اقتصادياً وحضارياً.
أمّا على المستوى الإسلامي، فقد كانت الفتوحات في الأندلس وصقلية سببًا من أسباب تعرف العرب والمسلمين على العقلية الأوروبية المختلفة عن الطبيعة الرومانية، بما أسهم في عملية التلاقح الحضاري.
وكانت كل من الأندلس وصقلية منارةً للعلم والازدهار في أوروبَّا «القروسطيَّة» نسبة إلى القرون الوسطى التي عنوانها الاستبداد الديني الكنسي المشرّع للاستبداد السياسي باسم «سلطان الله في الأرض»، وعنوانها أيضاً الجهل والظلام، وهي الصورة التي تتعارض مع النور الذي أشعت به الحضارة الإسلامية على أوروبا لتخرجها من ظلمات الجهل والاستبداد إلى أنوار العلم والحرية والعدل(4).
ولعل مثل هذه العقلية الاستبدادية القائمة على الأنانية المركزية الأوروبية هي التي ستكون بمثابة المعول الهدام الذي استهدف مراكز الإشعاع الحضاري في كل من الشرق (بغداد)، والغرب (صقلية وقرطبة)، عندما بدأت مظاهر التراجع الحضاري الإسلامي. (هذا ما سنتطرق إليه في مقال قادم بإذن الله تعالى).
_________________________
(1) اشتُهر في علوم الزراعة أبو الحسن القرطبي، وعبدالرحمن بن وافد الذي كان مشرفًا رسميًا على الحدائق الملكية في قرطبة، ومن العلماء الذين برعوا في فنون الصيدلة والطب، ومنهم أبو جعفر الغافقي مؤلّف كتاب «الأدوية المفردة»، وكتاب «المرشد في الكحل» عن طب العيون، وضياء الدين ابن البيطار صاحب كتاب «الجامع لمفردات الأغذية والأدوية»، وهو موسوعة طبية مرتّبة على أحرف الهجاء.
(2) كان للمجريطي دور فعَّال في نقل التواريخ من الفارسية إلى الهجرية، له أيضًا الفضل في ترجمة الخريطة الخاصة بالنجوم، وقد علّم عددًا من التلاميذ الذين بنوا المدارس ودُور العلم، ونبغ منهم أبو السمح الغرناطي، وابن الصفار الذي برع بالفلك والرياضيات، وكذلك المهندس المعروف عبدالرحمن بن زيد الذي اشتهر بالفن المعماري والفيزياء، وتبعهم الزرقالي القرطبي الذي قام بأكثر من 400 عملية رصد فلكي؛ بهدف تحديد أوج الشمس، ومحاولة الضبط الدقيق لنقطة الاعتدال الربيعي، وغيرهم الكثير من الأسماء التي قدمت التجارب وألّفت العديد من الكتب.
(3) الزهراوي حقق إنجازات لا تحصى في فن الجراحة وطب النساء والحمل والولادة، وإزالة الأورام، ووصف مرض الناعور، واستخراج الحصى، وخياطة الجروح بالخيوط الحريرية، وله الفضل في اختراع عدد كبير من أدوات الجراحة التي لا تزال تستخدم حتى اليوم.
(4) من هنا كان من الضروري التنبيه إلى أن الخطأ في عبارة التاريخ «القروسطي» الإسلامي، أو الحضارة القروسطية الإسلامية، لأن«القروسطية» حالة تجسد الانحطاط الحضاري الذي شهدته المجتمعات الأوروبية المسيحية في مرحلة من تاريخها لا يمكن تنزيلها على واقع المسلمين في تلك المرحلة.