الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله ومن والاه وبعد..
الأمة المسلمة في تصور الإسلام جسد واحد لا يقبل التجزئة، فالجسد الواحد تتعطل وظائفه إذا تفرقت أعضاؤه أو تباعدت أجزاؤه.
والإسلام من الأمة المسلمة بمثابة الروح من الجسد، كما قال الله تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا) (الشورى: 52)، فإذا لم يكن الإسلام جامعة الأمة الكبرى ونقطة المركز في وجودها؛ فقَدَ ذكرها، بل فقدت روحها، وأشبهت مواتاً لا حياة فيه.
والحقيقة الثابتة بالوحي نصاً وبالتاريخ واقعاً متكرراً أن المسلمين لا يعزّون إلا إذا اعتصموا بدينهم؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ {102} وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ) (آل عمران)، وهذا المعنى جلي أيضاً في قوله تعالى: (وَاذْكُـــرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوْبـِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِه إِخْوَاناً) (آل عمران: 103).
وهذه الأخوة الجامعة من أجلّ نعم الله على عباده المؤمنين؛ (لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جميعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبـِهِمْ ولـٰـكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) (الأنفال: 63)، وكان ابن عباس رضي الله عنهما إذا قرئت عليه هذه الآية يقول: «إنَّ الرَّحِمَ لَتُقْطَعُ، وإنّ النِّعْمَةَ لَتُكْفَر ، وإنّ الله إذا قَارَبَ بين القلوب لم يُزَحْزِحْهَا شَيْءٌ».
فلا يزدهر المسلمون إلا إذا ائتلفوا وتداعى بعضهم بعضاً تداعي الجسد الواحد، وفي الحديث قوله ﷺ: «مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثلُ الجسدِ إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائرُ الجسدِ بالسهرِ والحمى» (فتح الباري، 1/ 85).
وقد شدد الإسلام في نهي المسلمين عن الفرقة والتدابر والتخاذل، وفي الصحيح عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله ﷺ قال: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسْلِمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فَرَّجَ عن مسلم كربةً فَرَّجَ اللهُ عنه كربةً من كربات يوم القيامة، ومن سَتَرَ مسلمًا ستره الله يومَ القيامة».
ويعيش المسلمون في هذه الأيام محنة كبرى يختبر فيها إيمانهم ويمتحنون امتحاناً عظيماً، فقد تمالأ العالم على إبادة غزة، ووجهت ترسانات الأسلحة العالمية لإبادة شعب مسلم أعزل، وقتل آلاف مؤلفة من النساء والأطفال على مشهد ومرأى من الجميع، حتى تحركت قلوب ملايين من غير المسلمين في الشرق والغرب حرقة على الإنسانية المهدورة وجرائم الحرب المستمرة.
في حين يبقى المسلمون أصحاب القضية وأصحاب الرحم والجوار صامتين منصرفين إلى حياتهم المعتادة.
ولو كان هذا الشعب الذي يباد غير مسلم ولو كان في أقصى الأرض لكان حق الله في رقابنا أن ننجدهم نجدة للمظلوم وانتصاراً للإنسانية، فما بالنا وهم مسلمون ذوو جوار ورحم؟!
وهذا الخذلان تخشى عواقبه، والله تعالى يقول: (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (آل عمران: 105).
إن واجب الأمة اليوم بكل طاقاتها ومكوناتها أن تهب لنجدة أهل غزة، لا أقول انتصاراً لغزة، بل انتصاراً للإسلام وقيمه العليا ورسالته التي بعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقارب بين البعداء، وآسى بين الفرقاء، وآخى بين الأعداء، وجمع قلوبهم على كلمة سواء.
وانتصاراً للإنسانية التي ألبسها الله ثوب كرامة حين سواها بيده، ونفخ فيها من روحه، وأسجد لها ملائكته، وعهد لها بمهمة الخلافة؛ عمارة وإصلاحاً ومنع فساد.
وانتصاراً للأوطان المسلمة التي سيطالها الحريق، لا قدر الله، إن غفلت عن إطفائه.
وإن الأمة وهي تعيش أيام الحج الأكبر تحتاج إلى أن تعتصم بحبل الله، وتستفيق من هذه الكبوة التي طالت أكثر مما ينبغي.