لا ريب في أن عملية «طوفان الأقصى» قد أحدثت زلزالاً كبيراً، له توابعه التي لم تنته بعد، في جميع المسارات التي تتصل بها؛ ومنها مآلات المشروع الصهيوني، ونستطيع أن نتبين إجمالاً أثر المعركة الجارية على هذا «المشروع»، من رد الفعل الجنوني الذي أصاب قادة الكيان وداعميهم، الذين لم يتورعوا عن ارتكاب المجازر الواحدة تلو الأخرى، وعن إبادة أوجه الحياة كافة في قطاع غزة، وعن التخطي بشظايا عدوانهم إلى دول الإقليم الداعمة للمقاومة؛ حتى لم يعد الكيان يبالي بأن يُتهم في أروقة المحاكم الدولية بارتكاب الإبادة الجماعية، ولا أن تتوالى ضده المظاهرات، وعلى نحو غير مسبوق، في عواصم الدول ذات الدعم التاريخي له!
فمن رد الفعل الجنوني هذا، وما بلغه من إسفاف وانحطاط في العدوان بلا كوابح، والقتل بلا رادع، والإبادة بلا سقف، نستطيع أن نتبين ما أحدثته «طوفان الأقصى» من أثر وتأثير لدى هذا الكيان الغاصب؛ وإن كنا ما زلنا في مراحل التشكُّل والتفاعل.
وفي هذا المقال، نرصد بعضاً من مآلات المشروع الصهيوني في ضوء «طوفان الأقصى» وتأثيراتها، على 3 مستويات: مستوى المشروع نفسه من الداخل، ومستوى علاقاته بدول الإقليم، ومستوى علاقاته بالدول الغربية.
أولاً: في الداخل.. حان وقت الأسئلة المؤجلة:
الكيان الصهيوني وُلد مأزوماً من داخله، ذلك أنه كيان يفتقد التماسك الاجتماعي والرؤى الكبيرة التي تجمع أطرافه التي ظلت مبعثرة ومنقسمة على ذاتها، ما بين اليهود الأشكناز والسفارديم، والعلمانيين والمتدينين، والعسكريين والمدنيين، لكن لحظة اندفاعة المشروع، وقدرته على انتزاع نجاحات كبيرة بالتوسع والتمدد، الجغرافي تارة بعد هزيمة دول الطوق، والاقتصادي تارة أخرى بعد انطلاق قطار التطبيع؛ كل ذلك جعل أزمات الكيان التي ولدت معه تُرحَّل وقتاً بعد آخر، وتظل طيَّ التفاعل الممكن والحدود المستوعَبة.
«طوفان الأقصى» كشفت هشاشة التماسك الداخلي وفضحت أكذوبة «أرض الميعاد» فكانت الهجرة العكسية
لكن «طوفان الأقصى» جاءت لتجعل من هذه الأزمات أسئلة حالَّة لا مؤجلة؛ حتى رأينا، مثلاً، أن الهروب من مسألة تجنيد «الحريديم» لم يعد ممكناً، وأن الاستمرار في منحهم الامتيازات دون استحقاق يؤدونه بالخدمة في الجيش لم يعد محتملاً؛ فثمة واقع جديد فرضته المعركة بما أحدثته من عجز بشري في أفراد الجيش يجب تعويضه.
وبعد أن نجح نتنياهو (11 يونيو الماضي) في تمرير قانون بالكنيست لصالح الحريديم، الرافضين للتجنيد، جاء قرار المحكمة العليا (25 يونيو) بفرض تجنيدهم، ليقفز على هذا التمرير ويفرض واقعاً جديداً ما زالت تفاعلاته آخذة في التشكل! وتلك واحدة من أهم ما يواجهه المشروع الصهيوني على مستوى الداخل، بفعل «طوفان الأقصى».
كشف المعركة أيضاً هشاشة التماسك الداخلي، وفضحت ما يقال عن «أرض الميعاد»؛ فجاءت الهجرة العكسية (تقرير بوكالة «الأناضول»، في 17 ديسمبر 2023م، تحدث عن تقديرات لعددهم بمليون مهاجر خارج الكيان)، لتبين زيف وتهافت هذه المزاعم! فأيّ أرض ميعاد هذه التي تشبه فندقاً يمكن أن يغادره نزلاؤه بمجرد تعطل أي خدمة من خدماته؟!
ثانياً: في الإقليم.. تباطؤ «قطار التطبيع» والتفافه:
نشبت معركة «طوفان الأقصى» والكيان الصهيوني يستعد لترتيبات جديدة في الإقليم، يعقد فيها اتفاقيات سلام مع دول أساسية ذات طابع خاص، ويمتِّن علاقاته ويفرض سيطرته بأكثر من ذي قبل، بعد أن تصبح علاقات ما تحت الطاولة أمراً معلناً ومبرَّراً.
فجاءت المعركة واضطر معها الكيان لإظهار وجهه الحقيقي الغاشم، الذي كان يحاول إخفاءه تحت ملمس ناعم وخطاب يبشِّر بآمال الرخاء للمنطقة؛ فانكشف الغطاء عن وجه قاتل عدواني وذئب فاتك لا يراعي حرمة ولا أخلاقاً، ولا يرتدع بقانون ولا مناشدات! مما وضع شركاء المستقبل في حرج بالغ، وأصاب قطار التطبيع بتباطؤ يحاول معه الالتفاف على ما حصل، من خلال الإعلان عن الاستعداد لإقامة علاقات مع الكيان بشرط إيقاف العدوان والتعهد بإقامة دولة فلسطينية.
قطار التطبيع يحاول الالتفاف على إقامة علاقات مع الكيان بشرط إيقاف العدوان وإقامة دولة فلسطينية
وأمام هذه المحاولات التي لم تكف عن المضي في مخططاتها، وإن تعطلت قليلاً؛ أعلنت «حماس» على لسان القيادي أسامة حمدان أنها ترفض مقايضة حقوق الفلسطينيين بتطبيع العلاقات مع «إسرائيل» («الجزيرة»، 7 فبراير 2024م).
لكن حتى لو مضى قطار التطبيع في مساره، فإن الشعوب العربية أصبحت بعد «طوفان الأقصى» أكثر وعياً بحقيقة هذا المشروع الصهيوني، وأكثر استحضاراً لحقيقة عدوانيته المتأصلة فيه؛ وبالتالي، تحتاج أطراف التطبيع بذل جهود مضاعفة للتستر على هذه الحقيقة الصارخة.
ثالثاً: في الغرب.. انكشاف الدور وتساؤل عن الدعم:
لا يخفى أن المشروع الصهيوني جاء في أساسه معالجة لـ«المسألة اليهودية» في الغرب، التي كانت تمثل خنجراً في خاصرة الشعوب الغربية وصداعاً مزمناً في رأسها؛ فجاء هذا المشروع ليؤدي دوراً وظيفياً متماساً مع مصالح الدول الغربية، وعلاجاً للمسألة التي تقض مضجعها من الداخل، لكن المفارقة أن هذه «المسألة اليهودية» وإن اختفت عقوداً بعد إنشاء دولة الكيان الغاصب، فقد عادت من جديد بفعل «طوفان الأقصى».
لقد جاء الدعم الغربي اللامحدود وذو التكلفة الضخمة ليجدد لدى الشعوب الغربية ما كان يقال عن «المسألة اليهودية»، وجدوى هذا الدعم، فضلاً عن أخلاقيته وصلته بما يرفعه الغرب من مبادئ حقوق الإنسان ورفض القتل والإبادة!
وعلى سبيل المثال، وافق مجلس النواب الأمريكي، في مطلع نوفمبر 2023م، على طلب إدارة الرئيس جو بايدن بتخصيص 14.3 مليار دولار مساعدات لـ«إسرائيل» («الجزيرة»، 14 نوفمبر 2023م).
الشعوب الغربية استفاقت على ميزانيتها التي تُستنزف لصالح «إسرائيل» وأسلحة الغرب التي توظف في القتل
فالشعوب الغربية استفاقت على ميزانيتها التي تُستنزف لصالح «إسرائيل»، وعن أسلحة الغرب التي توظف في القتل والتدمير، وعن الحقوق الإنسانية التي ضلت طريقها للشعب الفلسطيني؛ فثارت التساؤلات التي كانت توارت لعقود، وعبّرت الحركة الطلابية حتى في جامعات النخبة، عن بقية حياة لدى ضمير الإنسان الغربي، وجاءت المظاهرات الضخمة خاصة في العواصم ذات الدعم التاريخي للكيان لتمثل إحراجاً للحكومات الغربية، وأصبحت غزة حاضرة في الانتخابات الأوروبية والأمريكية، ونجحت جامعات كثيرة في إيقاف برامج التعاون المشتركة مع نظيرتها داخل الكيان أو مع وزارة الدفاع فيه، وأصبح القمع الممارس لوقف احتجاجات الطلاب مدعاة للتساؤل الجاد عن الدعم الغربي للكيان.
وكمؤشر على فعالية هذا الحراك الغربي الشعبي، اضطر نتنياهو، ولأكثر من مرة -منها في خطابه بالكونجرس، في 24 يوليو الماضي- لمهاجمة المظاهرات الأمريكية الداعمة للحق الفلسطيني؛ وهو هجوم يدل على شعور الكيان بالقلق لفقده مساحات تأثير تقليدية، لكنه يفتقد الكياسة، ويفضح علاقات المصالح التي تربط الكيان بحكومات هذه الدول.
صحيح أن المظاهرات الغربية، رغم تواصلها واتساع رقعتها، لم تنجح في الضغط بدرجة كافية لإيقاف العدوان؛ لكن ما حققته من إثارة التساؤلات عن «المسألة اليهودية»، وفضح العلاقات غير الصحية بين حكوماتهم والكيان، واختبار المبادئ الغربية عن حقوق الإنسان ورفض العنف؛ يمثل مكتسبات ليست بالقليلة، ومرشَّحة للتصاعد.
لقد جاءت «طوفان الأقصى» في لحظة حرجة للكيان الصهيوني، وستكون لها تداعيات كبيرة وعلى عدة مستويات؛ بما يجعل المشروع الصهيوني أمام تحديات حقيقية حتى وإن حاول أن يخفيها بقوته الغاشمة، وعنفه المفرط، والتفافه المراوغ.