عاش المسلمون حيناً من الدهر أصبح كل ما يصدر عن الغرب من آراء تعتبر قضايا غير قابلة للنقاش، ورأى المثقفون العرب أن طريق النهوض الحضاري للمسلمين في محاكتهم الثقافة الغربية، واعتبرت بحوث المستشرقين نموذجًا يحتذي ومثلاً علياً، وصارت أفكارهم منطلقاً ومرتكزاً للآخرين، وتسربت أفكار الاستشراق إلى العرب وأصبحوا متغربين فكريًا حتي إن لم يتكلفوا عبء الذهاب إلى أوروبا،، وأصبح لهم تلاميذ وأنصارهم من أبناء العرب الذين شاركوا في مؤتمرات المستشرقين ببحوث تتفق مع أفكارهم في دراسة الإسلام، ومنها مؤتمر جامعة برنستون بأمريكا عام 1953م الذي دعا فيه د. أمين فارس إلى السير على نمط منهج المستشرقين العلمي للتمييز بين الحقيقة والأساطير.
ويتجلى المنهج الأوروبي في دراسات المثقفين العرب للإسلام في مناقشتهم أحكاماً دينية قطعية بأسلوب يشكك في صحتها، وتجريح روايات الصحابة، والتشكيك في أحاديث صحيحة؛ حيث إن عقلهم الوحيد القادر على الحكم على التراث، وما بذله العلماء قبلهم لا أهمية له عندهم؛ ولذلك نجد أن ما يثيره اليوم أبناء المسلمين حول السُّنة لا يخرج عما أثير بالأمس من شبهات لا تمت للنقاش العلمي بصلة.
– إنكار السُّنة كمصدر تشريعي:
أثيرت في العصر الحديث قضايا دينية تشكك في ثوابت الدين الإسلامي، والتشكيك في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم الصحيحة، ومحاولة التفريق بين القرآن والسُّنة، والادعاء أن عدم الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتعارض مع الإيمان بالله تعالى، وقد ظهرت هذه الدعوة في الهند منذ نهاية القرن التاسع عشر، وشارك فيها شخصيات شهيرة هناك، وأطلقوا على أنفسهم «القرآنيين» أو «جماعة أهل القرآن»، وانتهى الأمر ببعضهم إلى ادعاء النبوة، ومنهم من كان ولاؤه للاستعمار، ومنهم من أدى اجتهاده إلى إنكار الأحاديث النبوية كلها، وزعم أن السُّنة ليست لها أي قيمة تشريعية في الإسلام، وأن القرآن وحده هو مصدر التشريع ولا مصدر سواه معرضًا عما أجمع عليه المسلمون من ضرورة بقاء السُّنة إلى جوار القرآن، وإلا ضاع كثير من الدين، فالصلاة لا تؤدي إلا وفق ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونشر طبيب مصري يدعى توفيق صدقي مقالين عام 1906م تحت عنوان «الإسلام هو القرآن وحده»؛ مدعيًا أن القرآن قد حوى كل شيء من أمور الدين، وكل حكم من أحكامه بيّنه وفصّله بحيث لا يحتاج إلى شيء آخر كالسُّنة، وإلا كان الكتاب مفرطاً فيه، ولما كان تبيانًا لكل شيء، ولقيت الفكرة دعماً من بعض الكتَّاب المتربصين بالسُّنة النبوية، والمنكرين ثبوتها(1)، ويستدل بما نسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم: «ما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله، فما وافقه، فأنا قلته، وما خالفه فلم أقله»، متجاهلاً أنه لم يصح عند العلماء على نحو ما ذكر السيوطي بأنه ما روي هذا أحد يثبت حديثه في شيء صغُر ولا كبُر، وإنما هي رواية منقطعة عن رجل مجهول، ونحن لا نقبل هذه الرواية في شيء، وقال البيهقي: وقد روي الحديث من أوجه أخر كلها ضعيفة(2).
– إثارة الشبهات حول رواة الحديث:
واصل تلامذة المستشرقين العرب طعنهم في الصحابي الجليل أبي هريرة واتهامه بالكذب، وكذلك من رواة السُّنة وثقات المحدثين من التابعين: الزهري وعبدالله بن المبارك، وقاموا بتفصيل تلك الاتهامات على نحو ما ذكر أحمد أمين في كتابه «فجر الإسلام»، ومحمود أبو رية في كتابه «أضواء على السُّنة المحمدية»، فقد استكثروا مروياته للحديث التي تبلغ نحو 5374 حديثاً، فقد أسلم عام 7هـ، وصحب النبي صلى الله عليه وسلم 4 سنوات فقط، فكيف تمكن خلال تلك الفترة الوجيزة من حفظ ورواية هذا العدد من الأحاديث مقارنة بغيره من كبار الصحابة الأمر الذي يثير الشبهةَ -في زعمهم- حول روايته، وأنه قد دس على النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً من الأحاديث إما كذبًا منه، أو كُذبَت عليه(3).
وهم بذلك يتهمون أبا هريرة أو المحدثين الذين رووا أحاديثه، بالرغم من إقرار الصحابة لأبي هريرة بالسبق، فهم كانوا يختلفون إلى أعمالهم ثم يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو هريرة ملازمًا له حين يغيبون، ويحفظ عنه حين ينسون، وقد شهد عبدالله بن عمر بن الخطاب لأبي هريرة، بقوله: «أنت كنت ألزمنا لرسول الله وأحفظنا لحديثه»، ويقول أُبي بن كعب: «كان أبو هريرة جريئاً يسأل النبي عن أشياء لا نسأله عنها»(4).
وشرع بعضهم يشكك في أحاديث الإمام البخاري، ويزعم أنه يحتوي على أحاديث موضوعه لا يقبلها عقل، ولسنا بصدد التفصيل في تلك الشبهات، فيكفي الإشارة إلى رأي العلماء في علم الإمام البخاري وكتابه الصحيح، ومنها: قول ابن تيمية: «فليس تحت أديم السماء كتاب أصح من البخاري ومسلم بعد القرآن»؛ ويقول الشوكاني: «واعلم أن ما كان من الأحاديث في الصحيحين أو أحدهما جاز الاحتجاج به من دون بحث، لأنهما التزما الصحة، وتلقت ما فيهما الأمة بالقبول»(5).
وخرج علينا في السنوات الأخيرة إعلاميون علمانيون لم يؤتوا نصيبًا من العلم يتطاولون على السُّنة ورواتها وعلمائها وما ورد من الأحاديث الصحيحة التي أوردها الإمام البخاري كما سبق، وقاموا أخيرًا بتأسيس مركز للطعن في الإسلام والسُّنة النبوية الصحيحة تحت اسم «تكوين»، وقد قامت حملة كبيرة على مواقع التواصل الاجتماعي للتحذير من خبثه وسمومه خاصة أن مؤسسيه لهم تاريخ في التشكيك في السُّنة النبوية بالرغم من سطحية معلوماتهم وإسفافهم، وعدم تخصصهم، فهم إعلاميون وأدباء لا يفقهون شيئًا في السُّنة!
وهؤلاء هدفهم واضح هو الطعن في الإسلام، وإبطال أحكامه، والتشكيك في التراث الإسلامي بأنه مزيف لا يعول عليه، وإسقاط العلماء قدوة الأمة وبروز طائفة من الجهلة أو بنماذج من الغرب أو العلمانيين أو غيرهم من النماذج المتحررة من الخلق والدين.
– ردود العلماء على المشككين في السُّنة:
وقد رد على هؤلاء المشككين كثير من العلماء قديمًا أمثال الإمام الشافعي، وابن حزم الأندلسي، وابن عبدالبر القرطبي.. وغيرهم، ورد عليهم حديثًا فضلاء المشايخ، منهم: أبو الأعلى المودودي، وابن باز، وابن عثيمين.. وغيرهم.
ورد شيخ الأزهر د. أحمد الطيب على المشككين في السُّنة بقوله(6): كل من ينادي بالاعتماد على القرآن الكريم فقط وإغفال السُّنة النبوية جاهل لا يفقه الدين ولا يعرف أركانه والثوابت والأسس التي يقوم عليها؛ لأن السُّنة النبوية الشريفة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم هي أيضاً من عند الله تعالى بمعناها، أما ألفاظها فبإلهام من الله عز وجل لنبيه.
وهؤلاء يشككون في جهود علمية جبارة مضنية، أفنى فيها علماء الأمة وجهابذتها أعمارًا كاملة من أجل هدف أوحد هو تمييز الصحيح من غير الصحيح من مرويات السـُّنة حتى نشأ بين أيديهم علم مستقل من العلوم، يعرف عند العلماء بعلم الإسناد أو علم الرجال، وهو علم لا نظير له عند غير المسلمين لا قديماً ولا حديثاً، وقد شهد بذلك الأفذاذ من علماء أوروبا ممن توفروا على دراسة السُّنة النبوية حتى قال المستشرق الألماني شبرنجر: إن الدنيا كلها لم تر، ولن ترى أمة مثل المسلمين؛ فقد درس بفضل علم الرجال الذي صمموه حياة نصف مليون رجل.
وأضاف أن التاريخ لا يعرف شخصية أخرى غير محمد صلى الله عليه وسلم سجلت جميع وقائع حياته، وجميع أفعاله وأقواله وأسفاره وأخلاقه وعاداته حتى شكل لباسه، وخطوط وجهه وكيفية تكلمه ومشيه وأكله وشـربه ونومـه وتبسمه ونمط عشرته بأهل بيتـه ولأصدقائه وأعدائه، وغير ذلك مما حفلت به مراجع السير والتاريخ.
_________________________
(1) د. مصطفي السباعي: السُّنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، ص143.
(2) مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسُّنة، تحقيق: د. سراج الإسلام حنيف، دار القرآن والسنة، ط3، 2016، ص75-76.
(3) د. سيد عبد الماجد الغوري: الشبهات المثارة في السُّنة النبوية: عرض وردود، الكلية الجامعية الإسلامية بسلا نجور، م8، ع15، يونيو 2018، ص132.
(4) أخرجه الحاكم النيسابوري، في المستدرك على الصحيحين، ج3 ص84 (6166)، وعن قوة ذاكرته وحفظه راجع الحديث الذي أخرجه الترمذي في الجامع، أبواب: المناقب، باب: مناقب أبي هريرة (3835).
(5) الشوكاني: نيل الأوطار شرح منتقي الأخبار، طبعة وزارة الأوقاف السعودية، ج1ص21.
(6) شيخ الأزهر يرد على المشككين في السُّنة، صحيفة الوطن المصرية، 18 نوفمبر 2020م.