أثار الحفل الافتتاحي لدورة الألعاب الأولمبية في باريس، خلال الفترة من 26 يوليو – 11 أغسطس الجاري، انتقادات مسيحية وإسلامية، ومخاوف أخلاقية، نظراً للرمزية الفجة في تدعيم الشذوذ، والتطاول على الأنبياء والفطرة الإنسانية، وتقديم الشذوذ كحالة طبيعية تدعمها فرنسا الدولة والثقافة، تنذر بأن الشذوذ يقترب من تخوم تحوله إلى أيديولوجيا ينقسم الناس حولها.
فقد رفض الجانب الإسلامي والمسيحي التطاول والاستهزاء بنبي الله عيسى عليه السلام، لكن الغريب أن الرفض المسيحي تم التعامل معه بإيجابية، فاعتذرت فرنسا على لسان المتحدثة الرسمية للجنة المنظمة للأولمبياد آن ديكا، واعتذر المغني الفرنسي فيليب كاترين عن دوره الرئيس في العرض المسرحي، ولم تُطرح مسألة حرية الرأي والتعبير في وجه الكنيسة الكاثوليكية الفرنسية التي رفضت السخرية من المسيح عليه السلام.
وعلى الجانب السياسي، رفضت روسيا الاستهزاء بالرسل عليهم السلام، وتصويرهم بأنهم «مخنثون»، وهذا ما جاء على لسان ماريا زاخاروفا، المتحدثة باسم الخارجية، التي قالت: «إن باريس يبدو أنها قررت أن تحول كل شيء في الأولمبياد إلى موكب فخر للمثليين»، كما رفض الرئيس التركي طيب أردوغان حضور الاحتفال بسبب الدعاية للشواذ.
أما فيكتور أوربان، رئيس الوزراء المجري، فشن هجوماً لاذعاً، مؤكداً أن ما جرى ما هو إلا تفكيك وإضعاف للغرب، وأن الاحتفال ما هو إلا تجسيد للخواء الأخلاقي الغربي، وأن ذلك ما هو إلا تخلٍّ عن الروابط الروحية مع الخالق والوطن والأسرة، وهو ما يؤدي إلى تدهور الأخلاق العامة في المجتمع.
لكن السؤال: كيف تحول الشذوذ من انحراف أخلاقي يتخفى فاعله والمفعول به، قبل ثلاثة عقود، إلى ما يشبه الأيديولوجيا والحق الطبيعي في الغرب في الوقت الراهن، حتى بدا العالم الغربي وكأنه منقسم حول هذا الشذوذ؟
التطبيع مع الشذوذ
ما جرى في باريس مرحلة متأخرة من التطبيع مع الشذوذ، وهي مرحلة الاعتراف العلني الوقح، الإحصائية العالمية تؤكد أن الشذوذ يتنامى، فأعداد الشاذين تتقافز، وتزعم الإحصاءات أن الشواذ يمثلون 8% من سكان العالم، بل إن كتاب «الجنس بالأرقام» (Sex by Numbers) لمؤلفه ديفيد شبيجلهالتر الصادر عام 2015م يزعم أن نسبة الشواذ عالمياً هي 10%، وأن الأجيال الناشئة هي أكثر ميلاً لقبول الشذوذ وممارسته، لاعتبارات متنوعة، لكن من أهمها حالة التطبيع التي يشهدها العالم مع الشذوذ من خلال الإنترنت والسينما والصحافة والرياضة والتبريرات الطبية والنفسية.
التطبيع، بصفة عامة، يهدف إلى كسر شرعية معايير معينة لإدخال نظام معياري جديد، باستخدام إستراتيجيات خطاب متزامنة ومتنوعة، تُنكر المعايير القديمة، لتحقق تحولاً عميقاً في المعايير العامة، ويلجأ التطبيع، غالباً، إلى التدرج، والإضفاء التدريجي للشرعية على المعايير الجديدة، ومحاولة تقديم المعايير الجديدة وكأنها شيء طبيعي يجب قبوله، ويرافق ذلك اللجوء للشعارات البراقة لترويج المعايير الجديدة، وغالباً ما يأتي التطبيع من أعلى إلى أسفل، أي أنه مفروض من سلطة أو قوة أعلى وليس نتاج اختيار ونضج من القاعدة العريضة، ويرى بعض علماء الاجتماع أن التطبيع، غالباً، لا يتم إلا مع الانحرافات، بهدف قبول وشرعنة ذلك الانحراف، حيث يقوم التطبيع بتوسيع مفهوم المعايير وتمييعها، فالتغيرات الطفيفة التي يتم التطبيع معها تتحول مع الزمن إلى انحرافات كبيرة عن المسار الطبيعي، وابتعاد واضح عن المعايير الراسخة نحو معايير أخرى تقبل الانحرافات، وفي سبيل الوصول لذلك يتم التخفيف والاستهانة بالنتائج الكارثية المتوقعة مع عمليات التطبيع.
وخلال رحلة امتدت أكثر من 30 عاماً تم التطبيع مع الشذوذ، والنظر إليه كحق طبيعي للإنسان، وأن الشذوذ ليس انحرافاً، وإنما هو اختيار جنسي، وفي بعض الأحيان يولد الشخص ولديه ميل فطري للشذوذ.
فقبل أكثر من 30 عاماً وضع عالم النفس مارشال كيرك، وخبير الدعاية هانتر مادسن كتاب «بعد الحفلة» (After the Ball)، وكان غايته تقديم إستراتيجية حتى يتحول الشذوذ إلى مسار طبيعي في الحياة الجنسية؛ أي التطبيع مع الشذوذ، وتفكيك شعور الذنب تجاه هذا الانحراف، وإلغاء الاستهجان والرفض الاجتماعي للشذوذ، ومن الوسائل التي اقترحها الكتاب إدخال الشواذ إلى هوليوود، عاصمة الإنتاج السينمائي في العالم، وهؤلاء سيقومون بتقديم صورة إيجابية للشواذ من خلال سيناريو الأفلام، والتمثيل، والتمهيد للقبول بالتعايش مع الشذوذ والشواذ، كذلك أن يكون بعض مشاهير السينما والفن من الشواذ، وأن يتم الدفاع باستمرار عن الشذوذ، باعتباره أحد الأشكال الطبيعية للجنس التي قد يولد بها الإنسان.
وقال الكتاب: «إن التلميح علناً إلى أن المثلية الجنسية قد تكون اختياراً هو بمثابة فتح علبة الديدان التي تحمل عنوان «الاختيارات الأخلاقية والخطيئة» وإعطاء المتعصبين الدينيين عصا لضربنا بها، ولا بد من تعليم المستقيمين أن من الطبيعي أن يكون بعض الأشخاص مثليين جنسياً ولا علاقة للشر والإغراء بهذا».
لتأتي المرحلة الأخرى من التطبيع من خلال نشر ثقافة التسامح مع تلك الخطيئة، على اعتبار أن الثقافة تساهم في صنع السياسة، وأن أخبار الشواذ التي ستحتل مساحة الرأي العام ستصور المجتمع وكأنه منقسم حول تلك القضية، ليتم الدفع بـمفهوم التسامح ليتم إسكات الكثير من الأصوات المزعجة والمعارضة للشذوذ، لتبقى في النهاية أقلية صغيرة تتوارى بالمعارضة؛ وبالتالي يمكن حصارها والتخلص من إزعاجها نهائياً في مرحلة لاحقة، وحسب ما ذكر الكتاب فإن إسكات تلك البقية المعارضة للشذوذ لن يتم إلا من خلاف تشويه سمعتها!
وقد اُستخدم الكتاب كإستراتيجية لصنع نهاية دائمة لأزمة رفض الشواذ في العالم، وتقويض الموقف الديني خاصة المسيحي الرافض للشذوذ والداعم للأسرة، فمن خلال فيضان متنوع من الإعلانات والدعاية للتطبيع مع الشذوذ في الكثير من الدول الغربية، وتفكيك الرفض الديني والأخلاقي المناهض للشذوذ.
كان مؤلفا كتاب «بعد الحفلة» يريان أن المسيحية ستكون عقبة أمام هذا التطبيع في المجتمع الأمريكي، نظراً لتأصل الموقف الديني الرافض لهذا الانحراف، لذلك كانت نصيحة الكتاب هي تعكير صفو المياه الأخلاقية من خلال دعم الكنائس المتوافقة مع الشذوذ، واتهام الموقف الديني الرافض للشذوذ بالتعصب والكراهية، والتخلف عن مواكبة العصر، وفي سبيل ذلك تم تحديد شخصيات تاريخية ذات أهمية كبرى، والزعم بأن لهم تاريخاً مخفياً في عالم الشذوذ، لكن النصيحة الأهم التي قدمها هو الانتقال من كون الشواذ ضحايا لحوادث وجرائم تعرضوا لها دفعتهم لهذا المسار، إلى النظر إليهم كشخصيات ناجحة ولامعة في المجتمع.
لذلك، لم يكن غريباً أن يعارض الرئيس الأمريكي الأسبق أوباما التحفظ الروسي على مشاركة بعض الرياضيين الشواذ في دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في روسيا عام 2014م، بل إن أوباما اختار بعض اللاعبين الأمريكيين الشواذ ليشاركوا في الأولمبياد، وقال: وإذا كانت روسيا تريد الحفاظ على الروح الأوليمبية، فإن كل حكم يجب أن يصدر على المضمار، أو في حمام السباحة، أو على عارضة التوازن، ولا ينبغي أن يكون للتوجه الجنسي للناس أي علاقة بذلك.
ولعل هذا التطبيع هو ما أثار قلق اتجاهات دينية وأخلاقية في الغرب خاصة في الولايات المتحدة، مثل البروفيسور ألبرت موللر الذي أصدر كتاباً تحذيراً مهماً عام 2008م بعنوان «الرغبة والخداع: حقيقة الكُلفة للتسامح الجنسي الجديد»، أكد فيه أن قبول الشذوذ (المثلية الجنسية) لا يمكن أن يتم إلا على حساب المسيحية نفسها، ولا يمكن للاثنين أن يتعايشا معاً؛ وأكد أن الزواج أصبح من الماضي، بعدما باتت المواد الإباحية في كل منزل، وأصبحت المثلية الجنسية مقبولة، ومن ثم صارت الأسرة نفسها محل تساؤل، لكن الرجل نبه إلى حقائق مهمة، وهي أن الشهوة تم إعادة تعريفها، وأن معايير الخطأ والصواب فيما يتعلق بالجنس اختلفت، وهم ما مهد لحالة التطبيع مع الشذوذ، لذلك لم يكن غريباً أن نرى أعلام الشواذ ترفرف في باريس.