روى الإمام مسلم في صحيحه عن عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ، وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: «اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدُ فِي الْأَرْضِ، فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ وَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ»، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ) (الأنفال: 9)، فَأَمَدَّهُ اللهُ بِالْمَلَائِكَةِ،
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَيْنَمَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ يَشْتَدُّ فِي أَثَرِ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَمَامَهُ، إِذْ سَمِعَ ضَرْبَةً بِالسَّوْطِ فَوْقَهُ، وَصَوْتَ الْفَارِسِ يَقُولُ: أَقْدِمْ حَيْزُومُ، فَنَظَرَ إِلَى الْمُشْرِكِ أَمَامَهُ فَخَرَّ مُسْتَلْقِيًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ قَدْ خُطِمَ أَنْفُهُ، وَشُقَّ وَجْهُهُ كَضَرْبَةِ السَّوْطِ، فَاخْضَرَّ ذَلِكَ أَجْمَعُ، فَجَاءَ الْأَنْصَارِيُّ فَحَدَّثَ بِذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «صَدَقْتَ، ذَلِكَ مِنْ مَدَدِ السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ»، فَقَتَلُوا يَوْمَئِذٍ سَبْعِينَ وَأَسَرُوا سَبْعِينَ(1)، قال السّدّيّ: أقبل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يدعو الله ويستغيثه ويستنصره فأنزل الله عليه الملائكة(2).
معنى الاستغاثة
الاستغاثة طلب النصرة والنجدة عند الشدة، واستغاث الرجل: أي صاح(3)، وهي: نداء من يخلِّص من شدّة أو يُعين على دفع بليّة، والغِياث: اسم من أسماء الله الحسنى، ومعناه: المدرِك عبادَه في الشَّدائد إذا دَعَوْه(4).
وهي نوع من الدعاء، غير أن الفرق بينهما في كون الاستغاثة لا تكون إلّا من المكروب، أمّا الدّعاء فإنّه أعمّ من ذلك؛ إذ إنّه يكون من المكروب وغيره، فبينهما عموم وخصوص مطلق يجتمعان في دعاء المكروب، وينفرد الدّعاء عنها في غير ذلك، فكلّ استغاثة دعاء، وليس كلّ دعاء استغاثة(5).
وقد أمر الله تعالى بالدعاء وقرن الإجابة به في قوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة: 186)، وقال عز وجل: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (غافر: 60)، وقال ابن تيمية رحمه الله: من توسّل إلى الله تعالى بنبيّه في تفريج كربة فقد استغاث به(6).
الاستغاثة عند الأنبياء
لا ريب أن الأنبياء جميعاً كانوا يتوسلون إلى الله تعالى بالدعاء، غير أن لفظ الاستغاثة جاء على لسان بعضهم، ومن ذلك ما ورد عن سيدنا موسى عليه السّلام من قوله: «اللهمّ لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان، وبك المستغاث وعليك التّكلان، ولا حول ولا قوّة إلّا بك»(7)، وروى الترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَرَبَهُ أَمْرٌ قَالَ: «يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ»(8)، وروى النسائي عن أَنَسَ بْنَ مَالِك قال: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَاطِمَةَ: «مَا يَمْنَعُكِ أَنْ تَسْمَعِي مَا أُوصِيكِ بِهِ، أَنْ تَقُولِي إِذَا أَصْبَحْتِ وَإِذَا أَمْسَيْتِ: يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ، أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، وَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ»(9).
الإغاثة بعد الاستغاثة
تعددت الأمثلة التي تدل على أن الله عز وجل يرزق المستغيث بالاستغاثة، طالما أنه أتى بها على الوجه الذي يرضيه، ومن ذلك قوله عز وجل: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ) (النمل: 62)، فالله يجيب المضطر إذا دعاه، يعني بعد الدعاء، وقوله تعالى: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ {9} وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (الأنفال)،
ومما يدل على أن الإغاثة تأتي بعد الاستغاثة ما ثبت عن جابر بن عبد الله قال: «أتت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بواكي (الباحثون عن الماء)، فقال: «اللهمّ اسقنا غيثاً مغيثاً مريئاً مريعاً نافعاً غير ضارّ عاجلاً غير آجل»، قال: فأطبقت عليهم السّماء»(10)؛ أي أمطرت في لحظتها.
الحث على الإلحاح في الدعاء
لقد حث النبي صلى الله عليه وسلم أمته على الاستغاثة، حين أوصى بالإلحاح في الدعاء والمداومة عليه، ومن ذلك ما رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود عن ربيعة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام»؛ أي: سلُوا الله بهذه الكلمة وواظبوا على المسألة بها(11)، وأورد ابن حجر في شرح صحيح البخاري عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُلِحِّينَ فِي الدُّعَاءِ(12) فهذا الإلحاح مظهر من مظاهر الاستغاثة التي يحب الله تعالى من يفعلها ويفتح له باب القبول والإجابة.
_______________________
(1) صحيح مسلم (1763).
(2) تفسير الطبري (9/ 126 – 127).
(3) لسان العرب، ابن منظور (6/ 3312).
(4) معجم اللغة العربية المعاصرة (2/ 1649).
(5) فتح المجيد شرح كتاب التوحيد (165 – 166).
(6) مجموع الفتاوى، ابن تيمية (1/ 101).
(7) المرجع السابق (1/ 112).
(8) أخرجه الترمذي في سننه (3524).
(9) أخرجه النسائي (10330).
(10) أخرجه أبو داود (1169)، وصححه الألباني (1036).
(11) سنن أبي داود (6/ 500).
(12) فتح الباري، ابن حجر العسقلاني (11/ 95).