يقدم البيت النبوي مجموعة متنوعة من النماذج المثالية للزواج التي تتفق في الأعمدة الرئيسة وتثرى بكثير من التفاصيل المختلفة، هذه النماذج التطبيقية دائماً ما تحمل هدفاً مزدوجاً يحمل أحدهما مسار خدمة الدين والدعوة والجماعة المؤمنة، بينما يحمل الآخر المسار النفسي الذاتي للإنسان الذي يحقق له هذا الزواج السكن والحب والاستقرار.
ولا شك في أن المسارين لا تناقض بينهما كما قد يتصور البعض، بل العكس، فالاستقرار النفسي للفرد أكبر داعم له في مسيرته في الحياة العامة، كما أن المجتمع الذي تسوده القيم النبيلة والعادات الراقية يقوم بتسهيل إشباع الحاجات النفسية لأفراده.
يمكننا في ضوء هذا قراءة البيت النبوي بما يقدمه من نماذج تطبيقية عملية ثرية وملموسة وواقعية للحياة، وفي الوقت ذاته هي ترجمة حية للقيم القرآنية والأحكام الشرعية للإسلام، ولو أخذنا نموذج زواج النبي صلى الله عليه وسلم من السيدة أم سلمة؛ سنجد الكثير من الأضواء الكاشفة والهادية التي نحن بأمسّ الحاجة إليها في تلمسنا لإنشاء أسرة تتبع الهدي النبوي في البناء والعمران.
تحديات قاسية
كانت السيدة أم سلمة عند زواجها بالنبي صلى الله عليه وسلم في منتصف الثلاثينيات من عمرها تقريباً، أرملة لديها أربعة من الصبية الصغار، أحدهم لا يزال رضيعاً، لم تكن حياتها تتسم بالسهولة يوماً، فعلى الرغم من أنها من أشراف بني مخزوم وكان والدها أيقونة الكرم، فإنها ومنذ دخولها في الإسلام هي وزوجها أبو سلمة (وكانوا من أوائل من أسلم في مكة) قد تحولت حياتها للمشقة والجهاد، حيث هاجرت الهجرة الأولى للحبشة، وأنجبت هناك في الغربة وتهددتهم قريش وحاولت تسلمهم من النجاشي.
وعندما عادت أم سلمة إلى مكة بعد ذلك يحدوها الأمل للاستقرار وسط الأهل بعد أن تسربت شائعات بإسلام قريش، سرعان ما تسرب هذا الأمل واصطدم بقسوة مشركي مكة، وهذا الطغيان الذي كان يمارس على المسلمين آنذاك، ودخلت أسرتها في جوار أبي طالب الذي لم يلبث إلا قليلاً وتوفاه الله.
مرت الأيام صعبة قاسية حتى أذن النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين بالهجرة إلى المدينة، وهنا كانت المحنة التي عصفت بكيان أم سلمة عندما اعترضتها أسرتها وهي مهاجرة مع زوجها، فأجبروها عنوة على البقاء، وهاجر أبو سلمة وحيداً.
ولتكتمل هذه المحنة وتنغلق حلقاتها عليها، قام قوم أبي سلمة بانتزاع ابنها سلمة منها قسراً حتى خلعوا ذراعه، وتركوها واقفة عند بطحاء مكة التي ارتوت بدموعها عاماً كاملاً، فكانت لا تتوقف يوماً من الوقوف على أطرافها القاحلة تبكي وترقب طريق الهجرة البعيد، حتى أشفق عليها الأهل وسمحوا لها اللحاق بزوجها فترك أحماؤها لها ولدها لتهاجر به لوالده.
ودعت أم سلمة الدموع وعادت لها قوة الحياة بعودة ابنها والسماح لها بالهجرة، فقررت الهجرة وحيدة في هذه البيداء المهلكة لا تملك إلا قوة التوكل على الله واهب الحياة الذي هيأ لها عندما وصلت التنعيم من يساعدها في هذه الرحلة المضنية، ولم تمر سنوات ثلاث على هجرتها للمدينة شهد فيها أبو سلمة «بدراً»، و«أُحداً» حيث أصيب فيها إصابة بالغة وما لبث إلا قليلاً بعدها وتوفاه الله.
عادت أم سلمة أرملة في بلاد الهجرة بلا أهل أو أولياء أو معيل، لكنها قالت كما نقل لها أبو سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إنا لله وإنا إليه راجعون.. اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها»، ولكن السؤال ثار في نفسها؛ وهل هناك رجل أفضل من أبي سلمة؟!
قوة الحياة
جاءت إجابة السؤال بمجرد انتهاء عدة أم سلمة تقدم يخطبها أبو بكر، وتقدم عمر، وردتهما أم سلمة، فليس من السهل عليها تقبل بديل لأبي سلمة في حياتها، ولكن لما تقدم لها النبي صلى الله عليه وسلم اختلف الأمر، فما مثله يُرد، ولكن وعلى الرغم من ذلك فلقد كان لدى أم سلمة من الاستبصار النفسي بمشاعرها ومن الذكاء الاجتماعي الذي تدرك به واقعها ما يجعلها تتوقف عن القبول، حتى تشرح مشاعرها وما تفكر به للنبي صلى الله عليه وسلم، فهي أرملة تجاوزت سن الشباب، لديها صبية صغار ومن ثم عليها مسؤوليات كبيرة تجاههم، كما أن أولياءها غير موجودين في المدينة النبوية ليزوّجوها.
ولعل السبب النفسي الأكثر عمقاً هو أنها امرأة تغار بشدة، فلم يكن لأبي سلمة زوجة غيرها على الرغم من التعدد كان عادة شائعة، حتى إنها كانت تمازحه بأن من مات أولاً لا يتزوج صاحبه، فكان أبو سلمة يرفض ويقول: «اللهمَّ زوِّج أم سلمة بعدي رجلاً خيراً مني، لا يحزنها، ولا يؤذيها».
جاء رد النبي صلى الله عليه وسلم مطمئناً يهدئ هواجسها ومشاعرها القلقة، فعيالها عياله وأولياؤها لن يرفضوه، أما عن مشاعرها الخاصة فهو أكبر منها عمراً؛ ومن ثم فهما في وضع مناسب جداً ومثالي للزواج من حيث العمر الذي تتحرج منه خاصة، ولدى النبي صلى الله عليه وسلم زوجتان وقتها صغيرتان بالسن (عائشة، وحفصة)، ولعل هذا هو بوابة الشعور الثاني؛ أي مشاعر الغيرة التي تخشى أن تتعاطى معها فتفتن في دينها، مشاعر الغيرة التي تقلقها رغم يقينها بعدل النبي صلى الله عليه وسلم وحكمة تشريع التعدد الذي لولاه ما كان ثمة حل يعيد لها قوة الحياة في ظل الظروف التي عاشتها بعد وفاة أبي سلمة.
تقبل النبي صلى الله عليه وسلم مشاعرها وطمأنها أنه سيدعو الله لها فيذهب هذه الغيرة، فالمشاعر لا تناقش، وإنما هي بيد من بيده القلوب، منحها الوقت الكافي لتعتاد وجوده كزوج في حياتها، فكان إذا جاء إليها أخذت طفلتها الرضيعة فوضعتها في حجرها لترضعها فيستحي وينصرف، فعل ذلك مراراً، فالنموذج الزوجي المثالي يراعي المشاعر ويدرك الحاجات النفسية قبل أن يكون مجرد نموذج آلي لقائمة الحقوق والواجبات، بذل النبي صلى الله عليه وسلم جهده في منح أم سلمة مشاعر الأمان النفسي الذي تحتاجه، مع مراعاة العدل مع باقي نسائه، فهذا خط أحمر لن يستقيم البيت النبوي دونه.
تجاوبت السيدة أم سلمة مع هذا العطاء النفسي الذي مُنح لها فردت لها قوة الحياة مرة أخرى، فكانت نموذجاً للزوجة المثالية التي تهتم بكل تفاصيل الحياة في وحدة مثيرة للإعجاب، فهي عروس في أول الليل، ولكنها تقوم لتطهو في آخره، تستدعي الماشطة لتهتم بشعرها ومظهرها، ولكنها تتوقف بمجرد سماع النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر يقول: «يا أيها الناس..». وعندما تعترض الماشطة تقول لها: أولسنا من الناس؟!
هذه أم سلمة التي تسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذكر النساء في القرآن، فينزل قوله تعالى: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) (الأحزاب: 35).
الحديث عن الدور الرائع الذي قامت به أم سلمة في توضيح السُّنة ونشر الدعوة وخدمة الإسلام يتجاوز هذا المقال، يكفي في هذا السياق أن نقارن بين موقفها يوم «الحديبية» وثباتها وتهدئتها للنبي صلى الله عليه وسلم وحكمتها التي لولاها لهلك المسلمون، فهو يشبه تلك الطمأنة التي منحتها السيدة خديجة للنبي صلى الله عليه وسلم عند بدء الوحي.