يتعالى مفهوم الحرية في الديمقراطية الغربية على كل شيء، فلا يقف أمام الحرية الشخصية نص ديني أو عرف اجتماعي، فالحرية عندهم تعنى أن يفعل الإنسان ما يشتهي دون قيد أو شرط، وأن يعمل على تحقيق مصلحته، أو ما يعتقد أنها مصلحته، ويرى فيه المنفعة لنفسه.
منابع الحرية في الديمقراطية الغربية
قرر النظام الديمقراطي الحرية بجميع مظاهرها؛ كالحرية السياسية، وهي أن يحكم الشعب نفسه بنفسه، أو أن يقوم باختيار حكامه بنفسه، والحرية الشخصية، وحرية الرأي، والاجتماع، وتكوين الجمعيات، وحرية الاعتقاد الديني، وحرية التعليم، وغيرها من الحريات الشخصية والاجتماعية.
ويستند النظام الديمقراطي الغربي في رؤيته للحرية إلى ما أسسه الفكر العلماني لمفهوم الحرية والهدف منها، حيث يؤكد الفيلسوف البريطاني جون ستيوارت ميل أن الفرد يتمتع بحرية مطلقة، ويستطيع أن يفعل ما يحلو له، وليس لأحد التدخل في شؤونه وحياته، فالفرد دون سواه هو المسؤول عن نفسه، وهو أحق الناس بأن يكون الولي على أحواله؛ بدنية أو عقلية، مادية أو أدبية، ولا يجوز إجبار الفرد على أداء عمل ما، أو الامتناع عن عمل ما، بدعوى أن هذا الأداء أو الامتناع أحفظ لمصلحته، وأجلب لمنفعته، وأعود عليه بالخير والسعادة، ولأنه في نظر سائر الناس هو عين الصواب، بل هو صميم الحق.
أما مواطن الحرية فهي تتضمن ما يأتي:
أولاً: ودائع الضمائر ودخائل السرائر، وهذا يقتضي حرية العقيدة بأوسع معانيها، وحرية الفكر، والشعور، وحرية الآراء والميول في جميع المسائل والمباحث؛ عملية أو علمية، مادية أو أدبية، دينية أو دنيوية.
ثانياً: حرية الأذواق والمشارب؛ بمعنى أن تُطلَق لنا الحرية ننتهج في الحياة ما يوافق طباعنا من المناهج، ونفعل ما نشاء، على أن نتحمل ما يتلوه من العواقب، لا يعترضنا في ذلك من إخواننا معترض، ولا يقوم في وجهنا من ناحيتهم عائق، ما دامت أفعالنا لا تلحق بهم أدنى مضرة، وإن كانت في نظرهم دليلاً على الخرق أو السفه أو الخطل.
ثالثاً: يتفرع من تلك الحرية المقصورة على الفرد، حرية اجتماع الأفراد للتعاون على أي أمر ليس فيه أذية للغير، على أن يكون المجتمعون بالغين راشدين، لم يساقوا إلى الاجتماع بغش أو إكراه، فأيما مجتمع لا تحترم فيه تلك الحريات على وجه عام؛ فهو غير خليق أن يوصف بالحرية، مهما كان شكل حكومته، وأيما مجتمع لا تقوم فيه تلك الحريات موفورة غير منقوصة، وخالصة غير مشوبة؛ فهو غير كامل الحرية(1)، هذا ما تنطق به النظريات المؤسسة للحرية في النظام الديمقراطي الغربي.
رؤية نقدية للحرية في الديمقراطية الغربية
تؤسس النظريات الغربية لمفهوم الحرية المطلقة التي لا يقف أمامها نص ديني أو عرف اجتماعي، بل إن هذه الحرية إنما تقود إلى الفوضى التي يرى فيها كل إنسان أنه حر في أن يفعل ما يشاء ويقنن ما يشاء، لتحقيق هدفين، أحدهما: القوة والسيطرة، وثانيهما: المصلحة والمنفعة(2).
فصاحب المال يقنن للربا والاحتكار، وصاحب السلطة يقنن للاستبداد، وصاحب الشهوة يقنن للرذيلة، كذلك لا تخضع الحرية الغربية لقيم ثابتة، إنما تخضع للمصالح والأهواء، وبالتالي فهي حرية لا تقف بجوار الحق، إنما تقف بجوار أصحاب رؤوس الأموال، وجماعات الضغط الصهيونية بنفوذها السياسي والإعلامي الهائل.
ففي عام 1988م بعد نشر كتاب «آيات شيطانية»، حاول المسلمون في بريطانيا استخدام قانون حظر سبّ المقدسات ضد المؤلف سلمان رشدي، ولكنهم فشلوا في ذلك؛ لأن القانون يعاقب على سب المقدسات المسيحية فقط؛ وبالتالي فإن سلمان رشدي لم يكن خارجاً عن أي قوانين بريطانية حين أهان المقدسات الإسلامية.
وفي المقابل، نرى نجاحاً هائلاً للنفوذ السياسي والإعلامي لجماعات الضغط اليهودية، والمنظمات الصهيونية، ففي فرنسا في يناير 1998م تمت محاكمة روجيه جارودي بسبب كتاب «الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية»، وتغريمه 20 ألف دولار، ولم يقتصر الأمر على هذا؛ فقد تلقى جارودي عدة مكالمات هاتفية تهدده بالقتل، وتم الاعتداء على المكتبات التي تبيع كتبه، حتى امتنعت عن ذلك، كما اعتُدي على ناشر الكتاب بدنياً، ونهبت مكتبته(3)، فأي قيمة لحرية الفكر إذا عرّضت صاحبها للضغط والإرهاب؟!
نضف إلى ذلك أن الحرية في الديمقراطية الغربية تحتمل إبداء كل رأي، ونشر كل مذهب، وترويج كل فكر، حتى ولو كان البراءة من الوطن، والكفر بالله ورسله، والطعن على شرائع الأمة وآدابها، وعاداتها، والاستهزاء بالمبادئ التي تقوم عليها الحياة العائلية والاجتماعية، دون مراعاة لحق تلك الأمم في احترام شرائعها ومقدساتها، والأمثلة على ذلك كثيرة، مثل: تجريم المآذن في سويسرا، وانتهاك مقدسات الآخرين بالكلمات والرسوم والأفلام المسيئة، كما حدث في الدانمارك عام 2005م، وفي أمريكا 2012م.
فدل هذا على أن الفكر الغربي يقوم على الإعلاء من قيمة نفسه، والغض والإنقاص من قيم الآخرين وعقائدهم، تحت مسمى الحرية، فليست الحرية الرأسمالية المطلقة إلا سلاحاً جاهزاً بيدهم يشق لهم الطريق، ويعبّد أمامهم سبيل المجد والثروة على جماجم الآخرين(4).
أما الحرية الشخصية فهي تعنى –عندهم- أن ينطلق الإنسان وراء شهواته، وأهوائه، يأكل ما يشاء، ويفعل ما يشاء دون قيد أو نظام، وهذه ليست حرية، إنما هي الفوضى بعينها التي تودي بالأفراد جميعًا إلى الهلاك.
بالإضافة إلى ذلك، أن الإنسان الذي تحكمت فيه شهواته، وانقاد وراء غرائزه، إنما هو فاقد للحرية، فقد صار عبداً لشهوته، أسيراً لغريزته، لا يستطيع أن ينفك عنها، ولا أن ينفلت من قيدها حتى يضيع عقله، وتسلب كرامته، ثم يزعم بعد ذلك أنه حر.
يقول د. محمد عمارة: «ولئن قيل إن الحرية تقضى بعدم تعرض أحد لأحد في أموره الخاصة؛ قلنا: إن هذا رجوع إلى البهيمية، وخروج عن حد الإنسانية، أما الحرية الحقيقية فهي عبارة عن المطالبة بالحقوق، والوقوف عند الحدود»(5).
_______________________
(1) الحرية: جون ستيوارت ميل، ترجمة: طه السباعي، ص 17-21.
(2) الدين والسياسة: د. يوسف القرضاوي، ص 60.
(3) حرية التعبير في الغرب من سلمان رشدي إلى روجيه جارودي: شريف عبد العظيم، ص 9.
(4) اقتصادنا: د. محمد باقر الصدر، ص 375.
(5) الإسلام في مواجهة التحديات: د. محمد عمارة، ص 23.