أدركت العلمانية أن النفعية الفردية المطلقة لا تثمر إلا الأنانية، وأن الاجتماع الإنساني يلزمه قانون يضبط سيره ويحقق غايته، وقد استقر الفكر العلماني في ذلك على قانون «العقد الاجتماعي».
أساس الوحدة الاجتماعية في الفكر العلماني
يرى العلمانيون أن الاجتماع الإنساني ضرورة ممكنة التحقيق، وذلك بأن تجتمع الكثرة المفككة على أن تؤلف شعباً واحداً، وأن تُحِل القانون محل الإدارة الفردية وما تولده من أهواء وتجره من خصومات؛ أي أن يعدل كل فرد عن أنانيته ويتنازل عنها نفسه للمجتمع بأكمله، وهذا هو العقد الاجتماعي، الذي يصبح الجميع بمقتضاه متساوين في ظل القانون(1)، فهم يرون أن المساواة في الحقوق والواجبات هي السبيل إلى تحقيق الوحدة الوطنية، وهذا أمر يفرض على القوى المختلفة المنتمية لوطن واحد أن تتنازل عما يفرقها، وتجتمع على ما يوحدها، باعتبار أن الوحدة هي طوق النجاة للجميع.
العقد الاجتماعي بديل عن الدين في الفكر العلماني
إن الجانب السلبي من مفهوم الوحدة الوطنية عند العلمانيين هو التنازل عن الانتماء الديني من أجل التمسك بالهوية الوطنية، وهنا يتم طرح الهوية الوطنية كمفهوم مناقض للهوية الدينية، بمعنى وجوب نزع الطابع الديني عن المجتمع، حيث يري جان جاك روسو: أن الإنسان بفعل الأطماع وبتأثير الأديان تجرد من النقاء الطبيعي، وانتقل إلى حالة من الفوضوية اقتضت وجود عقد اجتماعي لتنظيم حياة الناس، ومحاولة العودة بهم إلى الحالة الطبيعية(2).
وهنا لا يكتفي روسو بإهمال الأثر الديني في توجيه المجتمع، بل يجعل الدين عائقاً عن الرجوع إلى الحالة الطبيعية السوية، ولكي يعود الناس إلى الحالة الطبيعية من النقاء والاجتماع؛ يجب عليهم التخلي عن دينهم، حيث يرى العلمانيون أن تطور الحياة الإنسانية قد قضى منذ عهد بعيد بأن وحدة الدين ووحدة اللغة لا تصلحان أساساً للوحدة السياسية ولا قواماً لتكوين الدول(3)، وأن الذي يصلح أساساً للوحدة هو الدعوة إلى تجميع الناس تحت أي جامع بعيداً عن أديانهم.
لذلك يتبنى العلمانيون شعار «الدين لله والوطن للجميع»؛ وهذا يعني أن الدين عند العلمانيين أمر شخصي وذاتي، وعلاقة بين العبد وربه، ولا علاقة له بحياة الناس(4).
ولهذا يردد العلمانيون أن الجامعة الدينية في القرن العشرين وقاحة شنيعة، وأننا في حاجة إلى ثقافة حرة أبعد ما تكون عن الأديان، ويجب أن نفصل الدين عن الدولة، ونلغي تعليمه في المدارس(5)، والهدف من ذلك هو إقصاء الإسلام عن أن يكون له أي وجود فعلي من ناحية، وتقديم أخوة الوطن على أخوة الدين من ناحية أخرى، وهنا يتضح لنا أن الوحدة الاجتماعية في الفكر العلماني تقوم على أمرين، هما:
1- تحقيق المساواة بين الأفراد.
2- إقصاء الدين عن الحياة.
موقف الفكر العلماني من الوحدة العالمية
تقوم رؤية العلمانيين للوحدة العالمية على تحقيق السيطرة على الآخرين واستغلالهم، من خلال فكرة «العولمة»؛ وهي تعني تعميم نمط من الأنماط التي تخص بلداً أو جماعة ليشمل العالم كله(6).
وتقوم فكرة العولمة في جانبها الثقافي على انتشار المعلومات، وسهولة حركتها، وزيادة معدلات التشابه بين الجماعات والمجتمعات؛ أي تقوم على إيجاد ثقافة عالمية عن طريق البث التليفزيوني عبر الأقمار الصناعية، وبصورة أكثر عمقاً من خلال شبكة الإنترنت التي تربط البشر بكل أنحاء المعمورة، فالعولمة الثقافية تقوم على تسييد الثقافة العلمانية لتصبح الثقافة العليا، كما أنها ترسم حدوداً أخرى مختلفة عن الحدود الوطنية، مستخدمة في ذلك شبكات الهيمنة العالمية، أما من الناحية الجغرافية؛ فإنّ العولمة لا تكتفي بواقع التجزئة العربية والإسلامية الآن، بل تحاول إحداث تجزئة داخلية في كل بلد عربي أو إسلامي، حتى ينشغلوا بأنفسهم وينسوا تماماً أنهم أمة عربية واحدة، ينتمون إلى جامعة إسلامية واحدة، وهذا معناه بعثرة الشعوب المسلمة وتفرقها، والقضاء على مقومات الوحدة والتضامن الإسلامي، وتفريغ المنظمات والتجمعات الإسلامية من مضامينها الحقيقية حتى تبقى عاجزة عن تحقيق آمال وأماني المسلمين، ولتصبح أداة طيعة في خدمة المخططات الاستعمارية الغربية.
إذاً المشروع السياسي للنظام العالمي الجديد الذي انتهت إليه العولمة هو تفتيت الوحدات والتكوينات السياسية -الدول- إلى تجمعات ودويلات صغرى ضعيفة ومهزوزة، ومبتلاه بالكوارث والمجاعات والصراعات الداخلية والفتن(7).
المنبع الذي اعتمدت عليه العلمانية في السيطرة السياسية
اعتمدت العلمانية في صياغة أفكارها حول السيطرة على الشعوب وإخضاعها للفكر الغربي على ما كتبه قادة التنصير في العالم، فحين نستعرض ما كتبه هؤلاء عن أهدافهم نجد اتحاداً كبيراً بين الفريقين، ويتجلى ذلك فيما كتبه د. علي النملة من أن أهداف التنصير التي لم تخرج عنها الأفكار العلمانية تظهر فيما يأتي:
1- تفريق الوحدة الإسلامية.
2- إخضاع العالم الإسلامي للسيطرة الغربية النصرانية والتحكم في خيراته ومدخراته.
3- السيطرة السياسية والتوسع الاستعماري(8).
إن الناظر إلى هذه الأهداف التنصيرية وما صاغته الأقلام العلمانية من أغراض يجد أنهما لا يختلفان، بل يجتمعان ضد الإسلام والمسلمين، وهي أهداف تؤكد أن العلمانية لا تسعى إلى الوحدة مع الآخرين؛ وإنما تقوم على السيطرة والاستغلال للجميع.
______________________
(1) تاريخ الفلسفة الحديثة: يوسف كرم، ص 203.
(2) سلسلة تراث الإنسانية: مجموعة مؤلفين (1/577).
(3) مستقبل الثقافة في مصر: د. طه حسين، ص 18.
(4) الحركات القومية الحديثة في ميزان الإسلام: د. منير محمد نجيب، ص 133.
(5) اليوم والغد: سلامة موسي، ص 187.
(6) المسلمون والعولمة: د. يوسف القرضاوي، ص 11.
(7) العولمة الجديدة والمجال الحيوي للشرق الأوسط: د. سيار الجميل، ص 57.
(8) التنصير مفهومه وأهدافه: د. علي النملة، ص 33.