تعد عمليات الإبادة والتهجير القسري التي تقوم بها حكومة بنيامين نتنياهو تجاه الشعب الفلسطيني، في قطاع غزة، أو النزوح الإجباري للأهالي اللبنانيين من الجنوب إلى شمالي نهر الليطاني، حلقة جديدة من مسلسل «أهداف الحركة الصهيونية» الممتد منذ ما قبل العام 1897م مع انعقاد المؤتمر الأول للحركة في مدينة بازل السويسرية.
ولم تأت تصريحات نتنياهو، أو غالانت، أو سموتريتش، أو غيرهم من المسؤولين «الإسرائيليين» بشأن «شرق أوسط جديد» من فراغ، وإنما هو إعادة لتحقيق الحلم الصهيوني بالسيطرة على المنطقة وفرض الهيمنة، ومحو قطاع غزة والضفة الغربية من الخريطة، وهو ما نشره رئيس وزراء الاحتلال في كلمته بالجمعية العامة للأمم المتحدة، في 28 سبتمبر الماضي، كما استعرض، في مطلع سبتمبر، أيضًا، خريطة لـ«إسرائيل» لم تظهر بها مدن الضفة الغربية المحتلة.
وما يجري في غزة والجنوب اللبناني هو إعادة لسيناريو ما جرى في العام 1948م من زرع «إسرائيل» في منطقة الشرق الأوسط، وتغيير خريطة المنطقة ككل، الأمر الذي يدعونا إلى القول بأن المشروع الصهيوني يستشري ويزداد شراسة بمرور الوقت؛ ويدفعنا إلى الحديث عن الحركة الصهيونية وأشكال الحركة أو مناهجها المختلفة، التي تلبي طموحات الصهيونيين بأسرهم، خاصة أن خرائط نتنياهو تكشف نوايا الحكومة الحالية تجاه غزة ولبنان.
الصهيونية السياسية
ظهر نهج أو تيار الصهيونية السياسية في المؤتمر الصهيوني الأول في العام 1897م، الذي يهدف إلى إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، من خلال قرارات دولية علنية وقانونية؛ أي توفير غطاء قانوني ودولي مع محاولة وضع خطوات أولية للحصول على المنح الحكومية من القوى القائمة التي تسيطر على المنطقة.
تبنى هذه السياسة كل من تيودور هرتزل نفسه، حيث جعل من «المسألة اليهودية» سياسة عالمية تهدف إلى خلق حقائق في فلسطين تفرض على المجتمع الدولي الموافقة على إنشاء وطن قومي (دولة) لليهود في فلسطين.
الصهيونية العملية
هو تيار رأى وجود حاجة مُلحة من الناحية العملية إلى الهجرة اليهودية لفلسطين (عالياه)، واستيطان الأراضي الفلسطينية المحتلة، حتى دون الحصول على ميثاق قانوني على الأرض، وتبنى هذا النهج موشيه ليب ليلينبلوم، وليون بينسكر.
وكانت الثمرة العملية لهذا التيار ظهور جماعة «أحباء صهيون» الذين حاولوا استيطان فلسطين عن طريق التسلل وترسيخ أقدامهم فيها عن طريق العمل البطيء والمثابرة.
وأدى القائمون على هذا النهج دور الوسيط بين الجماعة اليهودية والقوة الحاكمة، حيث تحركوا، عمليًا، داخل إطار صهيوني بالمعنى الاستعماري الاستيطاني للكلمة.
الصهيونية العمالية «الاشتراكية»
هو نهج قائم عن الاختلافات الأيديولوجية التي لا تتعلق بالضرورة بالفكر الصهيوني نفسه، كما أنه نظرة عالمية شاملة يحملها أعضاء هذه المجموعات المختلفة فيما يتعلق بشخصية الدولة اليهودية المستقبلية، تدعو إلى ربط تحقيق المشروع الصهيوني بواسطة نظام حكم اشتراكي في فلسطين المحتلة.
ورغبت الصهيونية العمالية في تأسيس مجتمع زراعي ليس على أساس مجتمع برجوازي خاص، بل على أساس المساواة الأخلاقية، وهو ما يناقض أفكار الصهيونية العملية والسياسية، ومن أبرز قادة هذا التيار نحمان سيركين، وبير بوروخوف، وحاييم أورلوزوروف، وبيرل كاتسنلسون.
الصهيونية التصحيحية
وهو نهج ظهر داخل المنظمة الصهيونية عام 1923م، وأدى دورًا في محاولة إقامة الدولة اليهودية على ضفتي نهر الأردن، والمطالبة بأن تكون الدولة الصهيونية هي الهدف المعلن للحركة الصهيونية، ونجحت في عقد عدة مؤتمرات، ناقشت من خلالها العديد من القضايا السياسية المتنوعة، بهدف تصحيح أو تنقيح أو مراجعة السياسة الصهيونية.
ارتبط تيار الصهيونية التصحيحية بشخصية فلاديمير جابوتنسكي الذي يعد رمزًا من رموز التطرف الصهيوني، خاصة وأنه دعا إلى التعامل مع القضية الصهيونية بالمزيد من الحسم وإقامة الدولة الصهيونية بالقوة، مع تفريغ أوروبا من اليهود وتهجير أكبر عدد ممكن منهم في أقصر وقت، من خلال توطين أغلبية يهودية في فلسطين وتأهيل الشباب الصهيوني عسكريًا.
وتشكّلت في شرق أوروبا، ثم انتقلت إلى باقي التجمعات اليهودية، وكوّنت أكبر اتجاه مُعارِض للاتجاه الصهيوني العمالي لأسباب سياسية وأيديولوجية؛ لذلك، أُطلق عليها صهيونية «الحد الأقصى» كونها تشدد على وجوب استعمال القوة والعنف والإرهاب في قضم الأراضي الفلسطينية، واتباع سياسة فرض الأمر الواقع ولو بالقوة؛ وبمعنى أدق فإن أتباع هذا التيار مؤيدون لفكرة «إسرائيل الكبرى».
الصهيونية الثورية
تقوم أفكار الصهيونية الثورية على الصراع الثوري من أجل جمع اليهود من الشتات، وإحياء اللغة العبرية باعتبارها لغة عامية منطوقة وجامعة لليهود قاطبة، وكذلك إعادة تأسيس مملكة يهودية في «أرض إسرائيل»، وفي أربعينيات القرن العشرين، انخرط العديد من أتباع هذا النهج في حرب العصابات ضد بريطانيا في محاولة لإنهاء الانتداب البريطاني على فلسطين وتمهيد الطريق للاستقلال السياسي اليهودي.
وبعد إقامة الكيان الصهيوني في العام 1948م، زعمت الشخصيات البارزة في هذا التيار أن إنشاء دولة الاحتلال لم يكن أبدًا هدفًا للصهيونية الثورية، بل أداة حقيقية وواقعية لاستخدامها في تحقيق هدف الصهيونية، الممثل في إقامة «مملكة إسرائيل»، ومن أبرز زعماء هذا التيار إبراهام شتيرن، وإسرائيل إلداد، ويوري تسفي غرينبرغ.
الصهيونية الدينية
ترى الصهيونية الدينية أن الهوية اليهودية وإقامة دولة «إسرائيل» واجب ديني مستمد من التوراة، وذلك على النقيض من البعض داخل المجتمع اليهودي غير العلماني الذي يؤمن بأن الخلاص لأرض «إسرائيل» لن يحدث إلا بعد مجيء المسيح الذي سيحقق هذا الطموح، وأن الأعمال البشرية لاسترداد الأرض ستجلب المسيح.
يقوم شعار أتباع هذا التيار على أن أرض «إسرائيل» لشعب «إسرائيل» وفقًا للتوراة، في وقت يشار إليهم عادة باسم «القوميين الدينيين» أو «المستوطنين»، ويمكن اعتبار أنهم مؤيدون لـ«إسرائيل الكبرى»، ومن أهم قادة هذا التيار إبراهام إسحاق كوك، ويتسحاق يعقوب رينز.
الصهيونية الثقافية
تؤمن الصهيونية الثقافية بأن تحقيق النهضة الوطنية للشعب اليهودي تتحقق عبر إنشاء مركز ثقافي في أرض «إسرائيل» ومركز تعليمي ليهود الشتات، باعتبارهم حصناً ضد خطر الاستيعاب الذي يهدد وجود الشعب اليهودي.
ترادف هذه الصهيونية مصطلح «الصهيونية الروحية»، حيث يؤمن أتباعها بأن المشروع الصهيوني لا بد أن يكون ذا بُعد ثقافي إثني وروحي، ويعبر عن روح الأمة اليهودية (إثنيتها).
ونهاية، فإن الحديث عن التيارات الصهيونية الأخرى يتسع، إلا أن «الصهيونية» هي حركة توفيقية استعمارية لا تهتم كثيرًا بالمضامين الأيديولوجية، بقدر استيعابها للتيارات السياسية والدينية المختلفة، طالما تصب في خدمة المشروع الصهيوني و«الشعب اليهودي»؛ إذ نرى كثيراً من الانقسامات والتباينات داخل الحزب «الإسرائيلي» الواحد، ولم تكن تلك الانشقاقات مجرد ظاهرة، ولكن طبيعة بين الصهاينة بهدف الالتفاف على الأهداف المطلوبة لتحقيق الأحلام الصهيونية.
فيما يمكن القول: إن «إسرائيل» تشهد انهيار التوجهات اليسارية، مقابل تصاعد مطرد للاتجاهات اليمينية، يقابله استشراء واسع لقاعدة المقاومة الفلسطينية داخل الأراضي المحتلة.