(وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ ۖ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ ۚ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل: 89).
لا يوجد مثل الخطاب القرآني، يباشر كل مكونات ومكنونات الإنسان:
– يخاطب عقله بكلام علمي جدلي، ويضعه أمام معادلات وأقيسة وأمثلة منطقية علمية، ومحاكمات تدليلية؛ تتدرج من البسيط إلى المعقد، ومن السهل إلى الممتنع، مثيراً لهذا العقل من غفلته وسهوته، ورافعاً له من هوته ووهدته، ومحرراً له من آصاره وأغلاله، مستخدما في ذلك قوة بلاغية آسرة غلابة، وكأننا بالقرآن ينفذ إلى مراكز التحكم والإدارة في عقل الإنسان، فيسيطر عليها، ويتسلم زمام القيادة فيها، ليدير بعد ذلك حواسه الخارجية أو حواسه الداخلية، ويذهب بها لاستطلاع آيات ودلائل الإعجاز في الآفاق والأنفس، حتى يصبح الإنسان يرى ما لم يكن يرى من قبل، ويسمع ما لم يكن يسمع، ويحس ما لم يكن يحس، مجبراً له على الانقياد التام، والاعتراف الكامل، والاعتبار الواعي بهذه الدلائل والآيات التي كان يمر عليها معرضاً أو صادفاً عنها.
(لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۚ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (الحشر: 22).
وهو (القرآن) في خطابه لعقل الإنسان، وهي النواة الأصعب فيه، يستعين على تليينه وتذليله وتطريته بوابل غزير من الكلمات العاطفية والجمل الوجدانية، تأخذ شكل التهديد تارة، وشكل التطمين تارة أخرى، وشكل الترهيب مرة، وشكل الترغيب مرة أخرى، بأسلوب تذكيري لطيف، أو تهديد تنبيهي عنيف، مع كثافة كبيرة في الوعد والوعيد.
يهدده مرة بالعذاب، ويؤمله مرة بالثواب، أو يتوعده بالخسارة، ويعده بالفوز، أو يذكره بالنعم، ويحذره من النقم.. إذاً هو لم يستعمل عقله استعمالاً صحيحاً في التفاعل مع آيات الله المقروءة، أو آياته المنظورة، في استنكاه واستكشاف واستنباط أهم حقائق هذا الوجود، وهي معرفة الله تعالى، ثم السير في طريقه المستقيم.
(إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا) (الإسراء: 9).
ثم هو لا يكتفي بإثارة رغبته أو رهبته، ولا يقف عند حدود تنشيط تفكيره ومخيلته، بل يضرب الأمثلة الحسية التطبيقية، وينصب الدلائل الحقيقة الواقعية للخير الذي ندب إليه، أو للشر الذي حذر منه، فيأخذ الإنسان في رحلة زمنية؛ إما تاريخية أو مستقبلة، ليوقفه على تلك الأمثلة والدلائل، لينقله من الموهوم إلى المحسوس، ومن المتخيل إلى المعاش.
فإذا سافر به إلى الماضي أوقفه على سير الأولين، وأطلعه على حيواتهم، ودخل به إلى مجالسهم ومنتدياتهم، وأشركه في حواراتهم وجدالاتهم، وأقحمه في خلافاتهم ونزاعاتهم، وفرض عليه شاء أم أبى أن يكون واحداً منهم، باسطاً أمامه الخيارات في أن يكون من أي الفريقين يريد، فيصيبه ما أصابهم، بعد أن يخبره بعاقبة كل واحد منهم؛ هلاك المكذبين الضالين، وفوز المصدقين المهتدين، صارخاً فيه أن أحداً لا يرى الفوز فيجتنبه، أو يرى الهلاك فينتخبه، إلا إذا عمي بصره وبصيرته.
(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج: 46).
وإذا سافر به إلى المستقبل، فيسافر به لا بوصفه مشاهداً له، ولا حتى مشاركاً به، بل صانعاً له، يريه بعيني رأسه نتائج أعماله، وحواصل أفعاله، ومآلات اختياراته، مرسخاً فيه تلك القاعدة الكونية الشرعية، التي هي أهم وأخطر قواعد هذا الوجود، وهي أن المقدمات تفضي إلى النتائج، وأن النتائج هي صنائع المقدمات، ليحيي فيه قانون المسؤولية، وما يرتكز عليه من قاعدتي الثواب والعقاب.
فإذا ذهب به في رحلة ترهيب أوقفه على عواقب المعذبين، كأنه واحد منهم، قد أصابه ما أصابهم، بل ربما ألغى عبارات التمثيل والتدليل، والتفت في خطابه من الغائب إلى المخاطب، وكأنه قد أمسك به هو متلبساً بالمحظور فاستحق العذاب.
(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ {25} وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ {26} يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ {27} مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ {28} هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ {29} خُذُوهُ فَغُلُّوهُ {30} ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ {31} ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ) (الحاقة).
وإذا ذهب به في رحلة ترغيب أشركه في جوائز الرابحين، وأناله من ثمارهم، وكأنه فاز فوزهم، وربح ربحهم، حتى يلمس بكلتا يديه، ويحس بجميع ما لديه أنه هو الفائز الرابح.
(يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ {18} فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ {19} إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ {20} فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ {21} فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ {22} قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ {23} كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) (الحاقة).
والقرآن إذ يتفنن في أساليبه التعبيرية؛ الترغيبية منها أو الترهيبية، إنما يفعل ذلك مع التأكيد التام على قضيتين جوهريتين، تذهبان بالترغيب أو الترهيب إلى مداهما الأقصى، من غير أن يبلغ الترغيب حد الطمع أو الاسترخاء، ولا الترهيب حد اليأس والقنوط.
الأولى: احتفاف خطابي الترغيب أو الترهيب بالتذكير الدائم بوسائل المراقبة والتدوين التي تصحب الإنسان في كل لحظة من لحظاته، وكل حركة من حركاته، ليكون على يقين تام بأنه هو وحده من يكتب مستقبله؛ نجاة أو هلاكاً.
الثانية: أن هذا التمثيل والتصوير للمصير، الذي يقربه من الواقع وكأنه وقع، إنما هو نداء رحيم من رب رحيم إلى عباده؛ للطائعين أن اثبتوا فإن الثواب قريب، أقرب إليكم من حبل الوريد، وللعاصين أن أقلعوا فإن العذاب قريب، أقرب إليكم من حبل الوريد؛ (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ {16} إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ {17} مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (ق).