جاء الإسلام ليهدي الإنسان إلى المنهج القويم ويصلح حاله في الدنيا ليكون أهلاً للفوز بالجنان في الآخرة، لذا كانت تعاليمه شاملة لكل نواحي الحياة، وكانت شريعته علاجاً لكل الأدواء، فتحقق في أحكامها تكاملية متناغمة، وفي أوامرها توازناً فريداً بين الجوانب التعبدية والأخلاقية.
فالإسلام من أهم خصائصه الاعتدال والوسطية، الشمولية والتكاملية، يأمر أتباعه أن يتعبدوه بالاتصال الوثيق به وبحسن التعامل مع عباده سواء بسواء، ويحبب إليهم أن يرتقوا بأرواحهم دون أن يهملوا أجسادهم، ويوازن بين طهارة الباطن وطهارة الظاهر، وبين البعد الفردي والبعد الجماعي، والمتتبع لنصوص الكتاب والسُّنة يجد نصوصاً كثيرة تدل على ما قلته آنفاً.
يقول تعالى في كتابه الكريم: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗاۗ) (البقرة: 143)، ويقول تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (القصص: 77)، وقال تعالى: (وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {201} أُولَـئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (البقرة).
ومع مبدأ التوازن لا بد من النظرة الشمولية التكاملية لهذا الدين التي هي من أهم خصائصه التي تنطلق منها التصورات الصحيحة لفهمه، قال تعالى: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱدۡخُلُواْ فِي ٱلسِّلۡمِ كَآفَّةٗ وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيۡطَٰنِۚ إِنَّهُۥ لَكُمۡ عَدُوّٞ مُّبِينٞ) (البقرة: 208).
ولا شك أن أي خلل في هذا الفهم الدقيق لخصائص هذا الدين سيتولد عنه خلل عقدي وقيمي وسلوكي يظهر بوضوح في شكل ثغرات واضحة لا نخطئها في واقع المسلمين اليوم، ولعل أبرز انعكاساته ما يمكن أن نطلق عليه تجزئة الدين، ونقصد به النظرة الانفصالية للدين التي تجعل كل جزء منه في واد، فتفصل بين العبادة والمعاملة، وبين العقيدة والشريعة، وبين الدين والدنيا، وبين الشعائر والأخلاق.
فنجد بعض المسلمين –جهلاً أو هوى– يتعامل مع تعاليم هذا الدين وكأنه يتسوق في سوق وأمامه مجموعة مختلفة من البضائع يأخذ منها ما يحلو له ويترك ما لا يحلو.
وتجد بعضهم يركز على الشعائر التعبدية كالصلاة والصيام ولكنه لا يكترث بالجانب الأخلاقي.
وآخرون نجدهم يهتمون بالشكل والظاهر لكنهم يهملون بواطنهم فلا يصلحون قلوبهم ويجعلونها مأوى للأحقاد والضغائن.
وهناك فئات تضخم مسائل فرعية في الدين تجعلها أصولاً، وتعادي عليها، في حين نجدها تهون الأصول والثوابت وتهمل الغايات والمقاصد.
ولا شك أن لهذه التجزئة للدين أخطاراً عديدة، لعل أبرزها:
– تقديم فهم مبثور مشوه للدين يصوره كأنه دين ناقص لا يستوعب جوانب الحياة المتعددة.
– تؤدي هذه التجزئة إلى فصل الدين عن معاني الحياة؛ قيماً ومعاملات، أخلاقاً وسلوكاً، شرعة ومنهاجاً.
– تقزم الدين وتحشره في زوايا ضيقة ومحددة فيتحول إلى علاقة بين العبد وربه، دون أثر في سلوك لا معاملة.
– تفريغ العبادات من أهدافها ومقاصدها، فالعبادات في الإسلام ليست مجرد طقوس جافة لا أثر لها في الحياة، بل لها ثمار تتمثل في التقوى والإحسان، يقول تعالى عن الصلاة: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُون) (العنكبوت: 45)، ويقول عن الصيام: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ) (البقرة: 183)، ووصف الله القرآن بأنه: (ذَٰلِكَ ٱلۡكِتَٰبُ لَا رَيۡبَۛ فِيهِۛ هُدٗى لِّلۡمُتَّقِينَ) (البقرة: 2)، والتقوى اتباع أوامر الله في كل ما الجوانب التعبدية والتعاملية، الشعائرية والأخلاقية.
– تؤدي هذه التجزئة إلى فوضى في فهم الدين فيتصدر المشهد أنصاف المتعلمين وأصحاب الأهواء الذين يفسدون ولا يصلحون.
– التلاعب بالدين تبعاً للأهواء حيناً وإرضاء لذوي النفوذ والسلطان حيناً آخر؛ فيتم التهوين والتهويل لتعاليم الدين والعبث بمبادئه ومقاصده، ومن تم تقليل شأنه في قلوب العباد.
– إحداث خلل كبير في ترتيب الأولويات وخلق فجوة بين واقع الناس ودينهم؛ فيظهر هذا الدين كأنه عاجز عن مواكبة النوازل، قاصر عن حل المشكلات.
– إبعاد الأمة عن قضاياها المصيرية وإشغالها بخلافات فرعية وتضخيم البعد الفردي على حساب البعد الجماعي الذي ينتج عنه تفرق الأمة وزيادة تشتتها واستمرار تخلفها عن الشهود الحضاري.
بعد ذكر هذه الأخطار لهذه لتجزئة الدين، لا بد أن نؤكد أن الأمر جلل وتبعاته لا تخفى على أولي الألباب؛ لذا لا بد من عودة راشدة لديننا، وفهم عميق له وتطبيق متوازن لأحكامه ونظرة تكاملية شاملة لكل جوانبه.
ولعلنا نشير إلى بعض التوصيات العلاجية في هذا الصدد:
1- تأصيل عميق من قبل أهل العلم لهذا الموضوع وتوضيح أخطار هذه التجزئة.
2- نشر الوعي بخصائص هذا الدين ونظمه وتصوراته ومقاصده.
3- تشجيع الدراسات والأبحاث التي تهتم بهذا الموضوع ودعمها والاستفادة من نتائجها العلمية والعملية.
4- رصد تبعات هذه التجزئة وآثارها في مؤسساتنا وتوضيح مساوئها على مجتمعاتنا.
5- تقديم خطاب دعوي نهضوي متوازن يواجه الخطاب المنحرف المضلل.
6- تسليط الضوء على القدوات التي تنتمي حقيقة لهويتنا الإسلامية وتطبق تعاليم الدين في جوانب حياتها كافة.
7- تيسير فهم تعاليم الدين للناس وربط تطبيقاته بحاجاتهم اليومية ومساراتهم المعيشية المختلفة.
8- التعاون بين المنابر الدعوية والفكرية والإعلامية في تقديم خطاب يصحح المفاهيم والتصورات.
9- التركيز على حسن إدارة الأولويات في قضايا الأمة والتعامل الإيجابي مع المحن التي تمر بها.
10- عرض أوامر وأحكام الدين عرضاً سليماً يربط الجزئيات بالكليات، ويرد المتشابهات إلى المحكمات، ويوازن بين الثوابت والمتغيرات.
وختاماً، فما قدمناه ليس إلا إضاءات متواضعة في موضوع مهم يحتاج إلى تكاثف الجهود لنعيد تصحيح المفاهيم، وتبيين التصورات الحقيقية عن ديننا الحنيف، ونصد موجات تشويهه وتحريف بوصلة قيمه وتوابثه.