نزلت فيها: (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) (النور: 33).
يجوب التاريخ الدنيا، يتأمل المشاهد والأحداث، وإذا جَسُمَ(1) المشهد أو عَظُمَ الحدث وقف التاريخ وأجرى قلمه عليه، وحسب جسامة المشهد تطول وقفة التاريخ أو تَقْصُر، وعلى قدر عظمة الحدث تُبْطِيء حركة قلم التاريخ أو تُسْرِع، وكانت مُعَاذَة بنت عبدالله جارية عند عبدالله بن أُبَيّ بن سلول؛ لذا لم يأبه التاريخ لها، ولم يَعْنِ(2) بها، ولم يَخْطُر(3) عنده شأنها، ونحن لا نقدح في نزاهة التاريخ، ولا نعيب في شرف غايته، ولا نختلف معه، أو نردُّ عليه رأيه، ولكنها طبيعة كوائن الدنيا، وقوانين الحياة.
وكانت وقفة التاريخ مع مشاهد حياة معاذة بنت عبدالله قصيرة، وحركة قلمه على أحداثها سريعة، فسطَّر عنها سراعاً في وقفات قصيرة، يقول: نزل قول الله عز وجل: (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) (النور: 33) في معاذة جارية عبدالله بن أُبَيّ بن سلول، وكان يُكْرهها على البغاء، وكانت مسلمة فاضلة فأنزل الله فيها هذه الآية، ثمَّ إنها عُتِقَتْ وبايعت النبي صلى الله عليه وسلم بيعة النساء، فتزوجها بعد ذلك سهل بن قَرَظَة، فولدت له عبدالله بن سهل، وأم سعيد بنت سهل، ثم هلك عنها أو فارقها، فتزوجها الحُمَيِّر بن عَدِيّ، فولدت له توأمين الحارث، وعديًّا ابني الحمير، ثم فارقها فتزوجها عامر بن عَدِيّ، فولدت له أم حبيب بنت عامر.
وقيل في نسبها: معاذة بنت عبدالله بن حبر بن الضُّرير بن أميَّة بن خُدَارة بن الحارث بن الخزرج، فيشي نسبها بأن الأنصار كان يَسْبي بعضهم بعضاً في الجاهلية؛ لأن معاذة كانت من بني الحارث بن الخزرج، وعبدالله بن أُبَي بن سلول كان من بني عوف بن الخزرج، فكلهم خزرجيون، ورغماً عن ذلك كانت معاذة أمة لعبدالله بن أُبي، فكانت معاذة إذاً حُرَّة من بيت كريم، وكان للسَّبيّ عليها ذنب وتجنٍّ، وقيل: كان اسمها مُسَيكة(4)؛ حيث ورد في تفسير ابن كثير للآية قول الأعمش: «نزلت في أمة لعبدالله بن أُبي يُقال لها مُسَيكة».
إن شأن المرأة يُثْقِل القلب بهمِّها، بيد أنها صبرت على ابن أُبَيّ الذى خَسَّ وحَقُر، ولما ألفته لا يرعوي حملت شكواها وخرجت إلى الطريق تنهبه بخطواتها السريعة نهباً، ولو سألناها: إلى أين يا مُعاذة؟ لأجابت بنفس تئن وتتوجع: إلى الملجأ والملاذ، إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية: «إن رجلاً من قريش أُسِر يوم «بدر»، وكان عند عبدالله بن أُبيّ أسيراً، وكانت لعبدالله بن أُبيّ جارية يُقال لها معاذة، وكان القرشي الأسير يريدها عن نفسها، وكانت مسلمة، وكانت تمتنع لإسلامها، وكان عبدالله بن أُبيّ يُكرهها على ذلك، ويضربها رجاء أن تحمل من القرشي فيطلب فداء ولده، فقال تبارك وتعالى: (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (النور: 33).
فأقبلت الجارية إلى أبي بكر رضي الله عنه، فشكت إليه ذلك، فذكره أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم، فأمره بقبضها(5)، فصاح ابن أُبي: من يعذرنا من محمد، يغلبنا على مملوكتنا(6).
عرضنا بعض وقفات التاريخ القليلة مع مشاهد من حياة معاذة بنت عبدالله رضي الله عنها، ولئن كنا لا نفرق بين حُرَّة وأَمة، وما يُعنينا من الشخصية أنها صحابية جليلة لها مشهد أو يزيد تتسلط علينا عظمته، ويجذبنا إليه جماله فلا نملك إلا الوقوف عنده، والطواف بخواطرنا حوله، فإن لمعاذة كل الحق في الوقوف عندها، فلنقف معها قليلاً.
كان ظلام الشرك يقبع بطبقاته الثخينة في آفاق يثرب، ويشيع في كل شيء فيها حتى نفوس ساكنيها، وكانت معاذة بنت عبدالله مدفوعة بظلام الشرك تتلمس جانب مرضاة سيدها عبدالله بن أُبي مهما عَظُمت تبعات هذا الأمر، ولما انصدع نور الإسلام في آفاق يثرب وراح يُبدد ظلام الشرك فيها شيئاً فشيئاً، لامس هذا النور قلب معاذة بنت عبدالله فوقفت تفكر، ولكن وقفتها لم تَطُل حيث أسلمت وبايعت، وترامى النور في نفسها، وانفعل به فؤادها، وخلع عليها أثره من الطهر والنقاء، واستقر في نواياها ألَّا تترك أمراً يتهدد ما أفاء به الإسلام عليها أو يُفسده.
ولما أمرها ابن أُبيّ بممارسة البغاء رفضت أشد الرفض، وأبت أعظم الإباء، فثارت في داره ونفسه قضية كبرى شعر بها تُطَامِن(7) من كبريائه، وتخافت من سيادته الزائفة، فضجَّ وجلب، وهاج وضرب.
كانت معاذة تريد الله عز وجل بعملها، فتبدت قوة إيمانها كصخرة يناطحها ابن أُبيّ وتناطحه، وتُنْزِل بوساوس نفاقه وتمرده ضربة ما أقساها! وكان غضب ابن أُبيّ بالغ الرهبة حتى ليخيل إليه أن يُجهِز عليها فلا يبقى لها بعد ذلك وجود، فأحست معاذة ما ملأ قلبها رهبة على دينها، فحملت شكواها إلى أبي بكر، فحملها رضي الله عنه بدوره إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمره بضمها إليه.
وليلوي ابن أُبي أعنة حقده وشروره إلى حيث يشاء أو يضرب بها في الأرض العريضة، فما كانت طبيعته صلى الله عليه وسلم لتجعله يترك أمراً يتهدد رسالته وصحابته بالخطر دون أن يسعى لمواجهته سعياً جاداً وسريعاً.
وهل نسي التاريخ السبب الرئيس لغزو النبي صلى الله عليه وسلم ليهود بني قينقاع؟! لا لم ينس التاريخ أبداً، ولكننا نحن الذين تختلف ذواكرنا(8) عن ذاكرته.
يقول المباركفوري في «الرحيق المختوم»: فلما فتح الله للمسلمين في «بدر»، اشتد طغيانهم(9)، وتوسعوا في تحرشاتهم واستفزازاتهم، فكانوا يثيرون الشغب، ويتعرضون بالسخرية، ويواجهون كل من ورد سوقهم من المسلمين، حتى أخذوا يتعرضون بنسائهم، وعندما تفاقم أمرهم، واشتد بغيهم، جمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوعظهم ودعاهم إلى الرشد والهدى، وحذرهم من مغبة البغي والعدوان، ولكنهم ازدادوا في شرهم وغطرستهم.
روى أبو داود وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً يوم «بدر»، وقدم المدينة جمع من اليهود في سوق بني قينقاع، فقال: «يا معشر يهود أسلموا قبل أن يصيبكم ما أصاب قريشاً»(10).
قالوا: يا محمد، لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفراً من قريش كانوا لا يعرفون القتال، إنك لو قاتلتنا لعرفت أننا نحن الناس وإنك لم تلق مثلنا، فأنزل الله تعالى: (قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ {12} قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ) (آل عمران)(11).
كان الإعلان السافر عن الحرب في معنى ما أجاب به بنو قينقاع، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كظم غيظه، وصبر المسلمون وطفقوا ينتظرون ما تتمخض عنه الليالي والأيام، وازداد بنو قينقاع جرأة، فقلما لبثوا أن أثاروا في المدينة قلقاً واضطراباً، وسدوا عن أنفسهم أبواب الحياة.
روى ابن هشام عن ابن عون: أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها، فباعته في سوق بني قينقاع وجلست إلى صائغ، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها –وهي غافلة– فلمَّا قامت انكشفت سوأتها فضحكوا فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ –وكان يهودياً– فقتله، فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع، وحينئذ عِيلَ(12) صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسار بجنود الله إلى بني قينقاع، ولمَّا رأوه تحصنوا في حصونهم، فحاصرهم أشد الحصار، وكان ذلك يوم السبت للنصف من شوال سنة 2هـ.
ودام الحصار خمس عشرة ليلة، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في رقابهم وأموالهم ونسائهم وذريتهم، فأمر بهم فكتفوا، وحينئذ قام عبدالله بن أُبيّ بن سلول بدور نفاقه، فألح على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصدر عنهم العفو، وتأمل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المنافق الذي لم يكن قد مضى على إظهار إسلامه إلَّا نحو شهر واحد فحسب، عامله بالحسنى فوهبهم له، وأمرهم أن يخرجوا من المدينة ولا يجاوروه بها، فخرجوا إلى أذرعات الشام، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أموالهم(13).
أطلت الوقفة عامداً مع السبب الرئيس لحرب بني قينقاع، ربما دفعنا هذا السبب إلى تغيير وجهة فكرنا في حقبتنا الراهنة.
أجل، سقت خبر بني قينقاع من بواكيره لندقق فيه وندرك أن النبي صلى الله عليه وسلم دعاهم إلى الإسلام فأبوا، وحذرهم فتطاولوا، فغضَّ صلى الله عليه وسلم الطرف عن ذلك كله، ولكنه لم يكن ليمرر أمر كشف عورة امرأة مسلمة مهما كانت العواقب، وإذا تبدى لنا السبب الرئيس لغزو بني قينقاع في كشف عورة امرأة مسلمة، فهل يجد صلى الله عليه وسلم في نفسه ما يتأدى به إلى غضِّ الطرف عن قضية معاذة بنت عبدالله التي لاذت به، ولجأت إليه ليحفظ عليها طهرها من عهر ابن أُبيّ؟! وأطلق ابن أُبيّ صيحة نفاقه: من يعذرنا من محمد يغلبنا على مملوكتنا؟!
صيحة لا ينكشف ضميرها إلَّا عن موجات من الانتهازية ما ترتد إلَّا وتشتد في نفس ابن أُبيّ، وأنهى إلينا التاريخ خبر عتق معاذة بنت عبدالله وبخل علينا ببيان سبب عتقها، وإن كانت الأحداث تجعلنا نحدس بأن المحرر الأول صلى الله عليه وسلم سعى في أمر عتقها، وأوعز بذلك إلى أبي بكر رضي الله عنه الذي كان يبذل ماله في شراء المسلمين المستضعفين من ساداتهم منذ الأيام البواكير للدعوة، ويجد راحته في هذا البذل الميمون.
ولمَّا أدرك رأس المنافقين ابن أُبيّ أن الوقت يمضي ضد عُهْرِه وفي صالح طهر معاذة دفعته الضرورة الملجئة إلى بيعها، لتتحرر معاذة من قيود الرق الثقال التي تحاصرها أينما تلفتت، ومن أثر شذا الحرية الذي راح يُلاطف نفسها، ويُربِّت على فؤادِها ويحمل عنه عبء الألم النفسي الذي ظل يرزح تحته سنوات طوال، لتمضي على سلم الصعود، وتذر في ذاكرة التاريخ رسالة طهر ونقاء تنشر الشذا وتشيع العبير.
ويبقى المنافقون في كل الأزمنة والأمكنة ينظرون بعيون السفه إلى نظام الإسلام الشامل لكل مناحي الحياة، ويرون أنه يُبيِّـت لهم أسباب الإقلاق والترويع(14).
__________________________
(1) عَظُمَ وكان مهماً.
(2) لم يُظهر لها اهتماماً.
(3) لم يكبر ويَعْظُم.
(4) وقيل: كان هذا الأمر قد وقع لجاريتين من جواري عبدالله بن سلول.
(5) يجعلها عنده.
(6) راجع تفسير ابن كثير للآية (33) من سورة «النور».
(7) تُغطي وتُـقَلِل.
(8) جمع ذاكرة.
(9) يقصد اليهود.
(10) أخرجه أبو داود (3001)، والبيهقي (19100)، وقال الألباني في ضعيف أبي داود إسناده ضعيف.
(11) سنن أبي داود مع عون المعبود (3/ 115)، وابن هشام (1/ 552) عن الرحيق المختوم.
(12) نفِد وغُلب.
(13) راجع غزوة بني قينقاع في سيرة ابن هشام.
(14) السيرة النبويَّة لابن هشام (1/ 552)، أسد الغابة (7291).