ما أقساها من شدة تلك التي تمر بها الأمة اليوم! وما أشد حاجتها لله عز وجل لتخرج من محنتها تلك على المستويين الفردي والعام! وما أشد حاجتها كذلك للصبر مع اليقين أن لكل شدة مدة، وأن فرج الله آت لا محالة، وأن الفرج مقرون بالابتلاء!
والدارس لتاريخ الأمة يعلم كمّ الأذى الذي تعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم على أذى المشركين ما لا يتخيله عقل إنسان، من التعذيب والإهانة والملاحقة والتضييق في الأرزاق، ثم المقاطعة وحبس المؤمنين في شِعب أبي طالب لثلاث سنوات جوعاً وعطشاً، فالأمر لم يكن سهلاً.
والدعاة وأصحاب الحق عليهم ضريبة سوف يدفعونها في سبيل نشر فكرتهم ورفع راية ربهم، ويجب على الأمة قاطبة أن تقف وتتأمل حتى تعلم كيف وصل الإسلام إليها ليتأسوا برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم.
وسوف نستعرض في تلك السطور صوراً مما عاناه النبي صلى الله عليه وسلم، ومن الشدة التي مر بها المسلمون كمجتمع وليد.
صورة من ابتلاءات النبي وصبره في وقت الشدة
لقد عانى النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته في سبيل حمل رسالة الإسلام إلى العالمين، ومن ذلك ما لاقاه عليه الصلاة والسلام بعد وفاة عمه أبي طالب، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف لعرض الإسلام عليهم بعد إعراض قريش وشدة بأسهم على المسلمين.
لكن ثقيف رفضت الدعوة، ولم تكتف بذلك، بل أمروا صبيانهم وسفهاءهم أن يصطفوا على الطريق صفين، وأن يرجموه بالحجارة؛ فرجموه صلى الله عليه وسلم حتى أدمَوا عقبه الشريف، والقصة ذكرها ابن إسحاق.
ولأن مع كل شدة فرجاً، ومع كل ألم جبراً، ومع كل ضيق فرجاً، فقد أرسل الله عز وجل لنبيه الفتى عداس النصراني، ليقبل اليد والقدم التي أدماها السفهاء تواً، وليس هذا فقط، بل ينصره الله عز وجل ويسوق له الجن ليؤمنوا بدعوته فيقول تعالى: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) (الأحقاف: 29)(1).
في مصيبة الموت اختبار لإيمان المسلم
وأكبر شدة يمر بها الإنسان هي شدة فراق الأحباب بالموت للأبناء أو الآباء أو الأزواج، ولقد علمنا الشرع حين تقع المصيبة أن يصبر الإنسان عند الصدمة الأولى ويسترجع وينتظر تعويض الله تعالى.
وها هي أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها تروي قصتها مع هذا الابتلاء قالت: لمَّا مات أبو سلمة أمرني النَّبِيّ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن أقول: «إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللَّهُمَّ آجرْنِي فِي مُصِيبَتِي، وَاخْلفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا»، فقلت في نفسي: ومن خير من أبي سلمة؟ أول أهل بيت هاجروا إِلَى الله ورسوله، تشير إِلَىٰ الهجرتين إِلَىٰ الحبشة، ثُمَّ إِلَىٰ المدينة.
ثُمَّ ما لبست أن بعث إليَّ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حاطب بن أبي بلتعة يخطبني إليه، فقلت: إني امرأة لي ولد، وإني غيور، قَالَ: «أما ولدها فولدي، وأسأل الله أن يرفعهم، وَأَمَّا الغيرة فأدعو الله جَلَّ وَعَلَا أن يزيلها».
فأبدلها سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ زوجًا خيرًا من زوجها لما قالت هٰذَا الَّذِي أمرها النَّبِيّ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: «إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللَّهُمَّ آجرْنِي فِي مُصِيبَتِي، وَاخْلفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا» (رواه مسلم).
فمن منا لم تمر به مصيبة الموت؟ ومن من البشر معفي منها؟! كلنا يحتاج لذلك الدعاء بيقين، كما قال الله تعالى: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ {156} أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (البقرة).
فضل الذكر والدعاء في رفع البلاء
أولاً: على مستوى الفرد:
وكما جعل الله عز وجل الشدة مقدرة على كل مسلم كابتلاء واختبار لإيمان المؤمن، فقد جعل لها أسباباً لزوالها، ومنها الذكر والدعاء، وذلك مع الأخذ بالأسباب المتاحة في قدرة الإنسان.
فعن أبي موسى الأشعري قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكنَّا معه في سفر، وكنَّا نرفع أصواتنا بِالْدُّعَاءِ والذكر، قَالَ: «أَيُّهَا النَّاس، اربعوا عَلَى أنفسكم، إنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبًا، إن الَّذِي تدعونه أقرب إِلَى أحدكم من عنق راحلته»، ثُمَّ إنه حرَّك إليَّ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد أسررت في نفسي قول: «لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ»، ثُمَّ قَالَ: «يا عبدالله بن قيس، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ كنزٌ من كنوز الجَنَّة» (رواه البخاري ومسلم).
وعن عبادة بن الصامت قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من تعارَّ من اَللَّيْل»؛ أي: انتبه من نوم اَللَّيْل، وغالبًا ما يكون هٰذَا من همٍّ يؤرقه أو من قلق يقل مضجعه، «من تعارَّ من اَللَّيْل، فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالحَمْدُ للهِ، وَلاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ»، قَالَ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فإن دعا، استجيب له، ثُمَّ إن قام فتوضأ وصلى ركعتين، غُفرت ذنوبه» (رواه البخاري).
ثانياً: على مستوى الأمة:
إن الأمر جلل، وقد وقعت مقدسات المسلمين اليوم قيد الأسر، ووقفت فئة قليلة منهم تذود عن تلك المقدسات بمالها وأبنائها ونفسها، بينما يقف بقية المسلمين لا يملكون من أمرهم شيئاً، وأقل ما يمكن أن يقدموه للقضية الفلسطينية التي تخصهم جميعاً هو التقرب إلى الله تعالى بما يحب ليرفع عن الأمة البلاء، والدعاء هو حصن المؤمن وعدته إن هو فقد العدة، كما كان سلاح المؤمنين في الأمم السابقة.
يقول تعالى في وقت النزال: (وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ {250} فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ) (البقرة)، وقال تعالى: (وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ {147} فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ) (آل عمران).
إن الشدة الحالية ليست مسبوقة في تاريخ الأمة، فقد مرت بها مرات عديدة، منها حين اجتاح التتار بلاد المسلمين ليدمروها ويقتلوا الملايين منهم، وتوقف الأذان في عاصمة الخلافة حتى ظن المسلمون أنه لا عودة للإسلام مرة أخرى، ومع ذلك استطاعت الأمة أن تتجاوز تلك الفترة، حين اجتمع لها سلطان العلماء العز بن عبدالسلام، وقائد اسمه قطز، وجيش جمع جنود مصر والشام ليطاردوا التتار وينتهي وجوهم وتعود الأمة لمهمتها وريادتها، لقد وجدت الأمة لتبقى وإن مرت بفترات سقوط متكررة، لكنها ستعود، فلنكن ممن تلمسوا طريق العودة بالذكر والطاعة والدعاء كخطوة أولى.
______________________
(1) تهذيب سيرة ابن هشام (1/ 123).