من المعروف أن المرض لا يصيب إلا جسداً سليماً، لكنه جسد في الأساس ضعيف، فيهاجمه الميكروب ليمرضه، وكذلك القلوب، فأمراض القلوب لا تصيب إلا القلوب السليمة، لكنها تنتظر لحظات ضعفها فتهاجمها وتصيبها بالمرض.
والرياء مرض من أمراض القلوب لا يصيب إلا الدعاة والمصلحين، فالقاعدون والمتخاذلون ليس لديهم ما يراؤون به، والبخلاء ليس لديهم كذلك ما يراؤون به، وداء الرياء هو أشد الأمراض خطراً على القلب، وإهلاكاً له.
أسبابه(1)
وبما أن الرياء داء خطير قد يذهب بالعمل كله، فإنه لا يسمح به للتسلط على القلب إلا جاهل بخطورته، فهناك أسباب معظمها يتعلق بالجهل تؤدي إلى الوقوع في الرياء والسمعة، ومن هذه الأسباب: سوء التربية، وأكثر ما يتسبب فيها هو جهل الأم والأب بأصول التربية وتنشئة إنسان قلبه متعلق بالله عز وجل وحده.
أيضا الصحبة السيئة تؤثر بشكل كبير على حب الظهور، كذلك عدم معرفة قدر الله عز وجل، فيكون حضور الآخر عنده أكبر من حضور الله عز وجل، فيحسب جهلاً أن إنساناً ما قد يضره أو ينفعه، فيرائيه، والله عز وجل يقول: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ) (محمد: 19).
ومن أسباب الرياء الطمع فيما في أيدي الناس، أو الرغبة في الصدارة، وإشباع رغبة دفينة في محمدة الناس والثناء عليه بالكذب، قالَ أَعْرَابِيٌّ للنبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ، والرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُذْكَرَ، ويُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ، مَن في سَبيلِ اللَّهِ؟ فَقالَ: «مَن قَاتَلَ، لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هي العُلْيَا، فَهو في سَبيلِ اللَّهِ» (رواه البخاري).
كذلك من أسباب الرياء اعتماد أسلوب الشدة في التربية؛ ما يغرس الجبن في نفس النشء، فيضطر للنفاق والرياء والكذب كي يتفادى العقاب المحتمل، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بالرفق في كل شيء، فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما كان الرِّفْقُ في شيءٍ إلَّا زانَه، ولا نُزِعَ من شيءٍ إلَّا شانَه» (رواه مسلم).
علاماته ومظاهره
وللمرائي علامات يعرفها هو عن نفسه تظهر في طريقة عمله إن كان وحده، أو كان بين الناس، فهو دائماً نشيط في العمل إذا كان يطلع عليه أحد، ويكسل إذا كان وحده، يحفظ محارم الله وهو بين الناس، وينتهكها إذا كان وحده ولا يبالي، الحفاظ على محارم الله ورعايتها إذا كان مع الناس وانتهاك هذه المحارم والتطاول عليها إذا كان وحده أو بعيداً عن الناس.
وإلى هذه السمة أو العلامة يشير النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً: «لأعلمنَّ أقوامًا من أمتي يأتون يومَ القيامةِ بحسناتٍ أمثالِ جبالِ تهامةَ بيضًا فيجعلُها اللهُ عزَّ وجلَّ هباءً منثورًا»، قال ثوبانُ: يا رسولَ اللهِ، صِفْهم لنا جَلِّهم لنا ألا نكونَ منهم ونحنُ لا نعلمُ، قال: «أما إنهم إخوانُكم ومن جِلدتِكم ويأخذون من الليلِ كما تأخذون ولكنَّهم أقوامٌ إذا خَلْوا بمحارمِ اللهِ انتهكُوها» (صحيح ابن ماجه).
من آثاره
وللرياء عواقب وخيمة على صاحبها وعلى المجتمع المسلم الذي من المفترض أن يكون خالصاً ناصعاً طاهرًا صادقاً، ومن هذه العواقب أن يحرم المرائي الأجر الذي يجب أن يتحصله من العمل، فالله عز وجل أغنى الأغنياء عن الشرك، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه» (رواه مسلم).
أيضاً يصاب المرائي بالاكتئاب على الدوام، فهو يسعى دوماً لإرضاء الآخرين من دون الله، يشغل نفسه بهم وهم كثر، يصدق فيه قول الله تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ) (طه: 124).
ومما يصيب المرائي انفضاض الناس من حوله، حيث إن القلوب بيد الرحمن يوجهها كيف شاء سبحانه، هذا غير الفضح الذي يمكن أن يلحق به في الدنيا والآخرة إن لم يتب إلى الله ويخلص له وحده.
وأخوف ما يصيب المرائي هو إحباط العمل، فلا أجر، ولا ثواب، فالله عز وجل لا يقبل إلا ما كان خالصاً له سبحانه: (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) (الكهف: 110)، ويقول سبحانه: (وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا) (الفرقان: 23)، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر»، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: «الرياء، يقول الله عز وجل يوم القيامة إذا جازى العباد بأعمالهم: اذهبوا إلى الذي كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا: هل تجدون عندهم لجزاء» (أخرجه أحمد).
علاجه
لقد جعل الله عز وجل لأمراض القلوب أدوية وعرفها لخلقه كي يتوبوا ويبدؤوا من جديد، فطالما كانت هناك أنفاس، وبقيت في الحياة أيام، فما زالت الفرصة سانحة ليعود الإنسان لرب العالمين، فلا يأس في العودة طالما بقي الإنسان على قيد الحياة، ومن أساليب علاج الرياء:
– أن يستمع المسلم ويتعلم دروساً عن الآخرة وأهوالها، والعرض على الله عز وجل، وما يصيب أصحاب الذنوب والكبائر من عذاب وخروج من رحمة الله دون ستر من أعين الخلق جميعاً، ومقارنة حاله بمن هم أفضل منه من المخلصين.
– التخلي الفوري عن صحبة أهل الفساد ومن يدفعه إلى الرياء أو النفاق أو حتى التقصير في عمله.
– الدعاء والابتهال والتضرع لله عز وجل في الخفاء والسر أن يرفع عنه هذا البلاء، فالإنسان منفرداً لا يقدر وخاصة في أمراض القلوب عليه أن يستعن بالله.
– الإكثار من عبادات السر كقيام الليل والذكر الذي لا يطلع عليه أحد ليدرب نفسه على الإخلاص في العبادة واحتساب الأجر عند الله تعالى.
– كثرة القراءة عن الله عز وجل ليعرف قدره وقدرته، فلا أحد يستحق العبادة سواه، ولا أحد ينفع أو يضر غيره.
______________________
(1) من كتاب «آفات على الطريق»، د. سيد نوح.