كاتب المدونة: أحمد جمال (*)
جاء يوم السابع من اكتوبر، ليجدد للأمة الإسلامية فكرها ويحييها من جديد ويبعث في النفوس العزة والكرامة، ويضع أيدينا على مواضع الذل والإهانة فقصة فلسطين عامة وغزة خاصة، فيها من الدروس والعبر التي فهمها الصغير قبل الكبير، فهنيئاً لجيل صاعد من أبناء أمة الإسلام، أصبح لديه الوعي والدراية الكاملة والكافية بقصة أرض وشعب عاش ويلات الحروب، وعانى من المشي في الطرقات والدروب، التي تصل به الى حريته واطلاق سراحه من قفص كان فيه منذ عام 1948، كان طيلة هذه الفترة يطالب من حين إلى حين، بحق هو أصيل له وأرض لم تعرف سواه، أخذها منه من لاحق له فيها ففلسطين ليست كلمة عابرة وإنما هي حكاية أرض لشعب، يكافح يوماً من بعد يوم من أجل حريته واستقلاله، فصمود شعبنا الفلسطيني في غزة اليوم ما هو إلا دليل على قوة العقيدة والإيمان النابع من التربية السوية والسليمة على الأسس الإسلامية الصحيحة، التي تنادي بالشموخ وعدم الانكسار إلا للواحد القهار سبحانه في علاه فكل يوم يمر على غزة يتعلم فيه النشء الصغير العقيدة ومعاني البطولة والتضحية والفداء، فجهاد أهل فلسطين اليوم هو نيابة عن الأمة الإسلامية جمعاء في الدفاع عن مقدساتنا، فنصرة الحبيب محمد تكون بنصرة مسراه، فالمسجد الأقصى هو ليس لأهل فلسطين خاصة، بل هو لكل مسلم شهد بوحدانية الله فالحرب ليست حرب على أرض، بل هي حرب عقيدة ودين ووجود، ففي قصة غزة اليوم تكتب سطور من ذهب يقرأها كل مسلم، وليس منا من لم يهتم بأمر المسلمين قال تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ {التوبة:71}، قال الشوكاني رحمه الله عند هذه الآية: أي قلوبهم متحدة في التوادد والتحابب والتعاطف بسبب ما جمعهم من أمر الدين وضمهم من الإيمان بالله. فنسبتهم بطريق القرابة الدينية المبنية على المعاقدة المستتبعة للآثار من المعونة والنصرة وغير ذلك.
ولكن تعلمنا من ديننا أنه ما أشتد أمر إلا فرّج، وما بكى أحد إلا ضحك، وما جاء عسير إلا كان الذي بعده يسير، فالعسر متبوع باليسر، والهزيمة بعدها نصر هذا وعد الله لعباده المؤمنين، فاليوم نشاهد بأعيننا ونسمع بآذاننا، ما يحدث لشعب جريمته الوحيدة أمام مدعي الإنسانية إنه يدافع عن أرضه ووطنه ودينه، فإذا سكت الشعب وكفَّ عن المقاومة كانت يد المحتلين تبطش فيهم شمال ويمين.
وإذا دافع عن نفسه كان هو في نظر مدعي الإنسانية، الجاني وليس المجني عليه فأصبحنا في عالم لا يحترم الضعيف، ولا يعرف الا لغة القوة، فصمود أهل فلسطين وخاصة غزة إنما هو نابع من القوة المستمدة من الإيمان الشديد بالحرية والأحقية في تقرير المصير، ويأتي هنا سؤال ما هو الدافع الذي يحمل أهل غزة على المقاومة والجهاد؟ بالرغم أنهم بعيد عن يد المحتلين فغزة ليست كالضفة وسائر فلسطين من حيث وجود الجنود والمستوطنين، هنا يأتي الجواب مبسطاً بأن ما فعلوه الا امتثالاً وتجسدياً لقول الله سبحانه وقال سبحانه: [وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ] (الروم:32)
وقول النبي صل الله عليه وسلم (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) متفق عليه. فتعلمنا غزة كل لحظة أنها جزء لا يتجزأ من أرض فلسطين، وأن المسلم مهما كان مكانه فالواجب عليه دعم ومساندة كل من يحافظ ويدافع عن المقدسات الإسلامية، فحمايتها من حماية الدين والدفاع عنها فرض على كل من ينتمي إلى بني الإسلام، فالأمة الإسلامية اليوم تعيش اختباراً حقيقياً فإما دعم ومساندة، وإما بعد وخذلان، فالمساندة حتى لو بالكلمة تكفي فالمهم عدم السكوت عن دعم حق هو أصيل للمسلمين.
قال صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً) متفق عليه. ففي قلب المعاناة والصمود والتضحية، تتجلى غزة كرمز خالد للنصر والعزة، حيث لا يمكن فصل مآسيها عن عزة أهلها ولا دموعها عن صمودهم. غزة، تلك البقعة الصغيرة على خارطة العالم، حملت على عاتقها قصة شعب يناضل من أجل حريته، ويقاوم بأبسط الوسائل وأكثرها قوة، دموعه وإرادته. فكل دمعة تسقط على أرضها تحمل في طياتها حكاية نضال، وتجسد رحلة طويلة من الكفاح والتضحية.
فإن حقوق الفلسطينيين في الأرض لا تستمد من سلالة نسب مزعوم يعود إلى الكنعانيين، أو إلى أي شعب آخر عاش قديما في فلسطين، بمن في ذلك الفلسطينيون الذين سمي البلد باسمهم. كما لا يستمد حق الإسرائيليين اليهود في العيش في أرض فلسطين من نسب مزعوم أو من ارتباط روحي بـ”الإسرائيليين” القدماء. فقد أقيمت “إسرائيل” الحديثة بممارسة القوة، وليس بالحقوق.
إن للمنتسبين إلى ديانات الإسلام والمسيحية واليهودية والديانات الأخرى حقوقاً دينية وهذا مفهوم حديث أيضًا يتعلق بحرية الضمير، وهو من حقوق المواطن؛ أي إن اعتناق ديانة أو التخلي عنها من حقوق المواطن وليس من حقوق الديانة ذاتها؛ وحتى النظم غير الديمقراطية يفترض أن تعترف للطوائف الدينية بحقوق مدنية جماعية. لكن هذا لا يمنحهم حقوقا سياسية في إقامة دولة، أو حتى في دولة قائمة. فما يعلن على أنه “الحق في دولة” هو حق وطني لشعب، وهو حق تقرير المصير. وللفلسطينيين الحق في إقامة دولة بفضل الحقين المذكورين الحضور الأصيل الطويل والمتواصل في البلاد، وحق الشعب في تقرير مصيره. وقد حقق “الإسرائيليون” اليهود تشكلهم الوطني بفضل بناء مؤسسات دولة قامت بالقوة (1)
ومن جهة ثانية، فإن القضية الفلسطينية هي القاسم المشترك لجميع المؤتمرات العربية الرسمية وغير الرسمية، ونادراً ما يحدث خلاف في وجهات النظر عند الجماهير العربية بالنسبة لدعم الشعب الفلسطيني، ولقد فاقت المساعدات المقدمة من بعض المواطنين العرب التبرعات الرسمية التي قدمت لدعم الانتفاضة في الأراضي المحتلة. وبذلك أدت القضية الفلسطينية إلى زيادة الإدراك والوعي القومي عند الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج، وجعلتهم يؤمنون بأن معظم المشاكل التي يعانون منها هي بسبب وجود “إسرائيل” في قلب الوطن العربي.
وفي المقابل فإن للوحدة العربية دوراً أساسياً في حل القضية الفلسطينية، وبقدر ما ان لفلسطين مكانة خاصة في قلوب العرب، فإن الوحدة العربية ضرورة أساسية لتحرير فلسطين من الاحتلال “الإسرائيلي”، لأن الاثنين يكمل أحدهما الآخر، وإذا كانت القوى الاستعمارية قد خلقت “إسرائيل” في وسط الوطن العربي من أجل تجزئته، لاستمرار هيمنتها على المنطقة، فإن القوى الإمبريالية تصر على التآمر على قيام الوحدة العربية لأن في ذلك ضمانة لبقاء “إسرائيل” نفسها حماية لمصالحها (2)
العزة التي يتحلى بها أهل فلسطين اليوم ليست مجرد شعور، بل هي واقع يتجسد في كل تفاصيل حياتهم. رغم الحصار والدمار، يعيشون بإصرار على البقاء، وبإيمان قوي بعدالة قضيتهم. لا يخشون التحديات، ولا يستسلمون للمحن. فكل جدار يُهدم، يُبنى غيره، وكل جرح يُفتح، يُشفى بالصبر والإيمان.
العزة في فلسطين عامة غزة خاصة تُرى في وجوه المقاومين والشباب الذين يصرون على مواصلة حياتهم ودراستهم رغم الظروف القاسية. تراها في الأمهات اللواتي يصبرن على فقدان أبنائهن، ويعطين العالم درسًا في الكرامة والعزة. وتراها في الأطفال الذين، رغم آلامهم، يرسمون في دفاترهم مستقبلًا مليئًا بالحرية والسلام.
ويأتي هنا سؤال لماذا ترك عز الدين القسام ساحة الجهاد في سوريا ضد الاحتلال الفرنسي، وقد كان احد قادة ثورة 1919 وهي الثورة السورية الأولى لماذا ترك موقعه الجهاد هنا إلى موقع آخر في فلسطين ؟! اليس هذا إدراكا مبكرًا بأن جوهر الجهاد وأهم مواقعه هو بالتحديد على الساحة الفلسطينية باعتبار أن أخطر وأهم فصول التآمر الصليبي اليهودي هو بالتحديد على أرض فلسطين، وأن على أرض فلسطين يتحدد مصير الصراع الطويل بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية، أليس هذا وعيا مبكرًا بأن القضية الفلسطينية هي القضية الأولى والأهم، وهي القضية المركزية للأمة الإسلامية ولذلك فضل الرجل أن يواجه التحدي الصليبي الغربي والتحالف مع اليهود في المكان الصحيح وفي الموقع الجوهري للصراع، وبذلك يكون عز الدين القسام السوري المولد والنشأة قد طرح وحفر بجهاده على أرض فلسطين أهم حقائق هذا العصر وهو جوهرية الصراع في فلسطين وكون القضية الفلسطينية هي قضية العرب والمسلمين الأولى، وفضلاً عن هذا المعني الهام فإن جهاد عز الدين القسام على أرض فلسطين يؤكد أهمية الجهاد في كل موقع يتعرض لخطر القضية الجوهرية ” فلسطين ” لعل هذا درسنا بليغاً لكل المجاهدين الذين تركوا يجاهدون في قضايا أقل أهمية وأحيانا في المكان الخطأ. (3)
ففلسطين اليوم تعد في طليعة المدافعين عن شرف الأمة الإسلامية والعربية. بمقاومتها الصامدة والمستمرة، تثبت فلسطين للعالم أنها ليست مجرد أرض محتلة، بل رمز للعزة والكرامة لكل الأحرار. فالشعب الفلسطيني خاصةً في القدس والضفة وغزة، يقف بصدوره العارية في وجه واحدة من أقوى الآلات العسكرية في العالم، ليس دفاعًا فقط عن وطنه، بل عن عقيدة وشرف الأمة.
فصمود غزة اليوم يحمل في طياته معاني عميقة تربط بين الألم والكرامة. فدموع غزة ليست دموع ضعف، بل دموع القوة والصمود. حين يسقط الشهداء وتسيل دموع الأمهات، تتحول هذه الدموع إلى سلاح أقوى من الحديد. كل قطرة منها تروي أرضًا عزيزة، وتعلن أن الاحتلال مهما تجبر، لن يكسر إرادة أمة بأكملها.
غزة ليست مجرد مدينة محاصرة، بل رمز للتحدي والعنفوان. كل مرة تنهض من تحت الأنقاض، تذكر العالم أن النصر لا يُقاس بعدد الدبابات، بل بإرادة الشعب وإيمانه بعدالة قضيته. هؤلاء الذين يحاصرون غزة قد يظنون أنهم يحققون أهدافهم، ولكنهم لا يدركون أن دموع أطفالها وأمهاتها تروي شجرة النصر التي ستنمو رغم كل شيء.
في كل غارة، وفي كل لحظة صمود، غزة تثبت أنها ليست مجرد مدينة، بل هي عزة أمة بأكملها. ودموعها، رغم مرارتها، فهي مفتاح النصر المنتظر.
يظنون مدعي الإنسانية أنه بالزور والبهتان ستثبت أحقية “الإسرائيليين” في فلسطين. وقد وضعت نصب عيني ثلاث نقاط رئيسية اعتمدت عليها الحركة الصهيونية في تبريرها لاحتلال فلسطين وقيام “إسرائيل”. هذه النقاط هي: الأرض، والشعب، والوعد.
ولأن التاريخ كما يقول الشاعر الفرنسي “بول فاليري” هو أخطر محصول أنتجته كيمياء الفكر فلابد لنا من استخدام تلك الكيمياء في البحث العلمي الأمين الذي هو وسيلة موضوعية فعالة تهدف للوصول إلى نتائج تسمى بالحقائق التاريخية. فالكذب لا ينسجم مع العلوم التاريخية لأن ذاكرته قصيرة والتاريخ ذاكرته عميقة بل هو الذاكرة نفسها بوقائعه وأحداثه، لذلك فالتضليل لن يصمد طويلا أمام كل بحث تاريخي أمين يحاول أن يجلو الحقائق ويكشف بالوثائق والأدلة ما غمض عن الأذهان. وتمر المنطقة العربية بتغيرات جوهرية ستتشكل في المستقبل القريب وتصوغ أيدولوجيات جديدة في المنطقة خاصة بعد ثورات الربيع العربي وسينعكس ذلك على باقي أنحاء العالم وسيغير بدوره طبيعة العلاقات والتداخلات بين الدول بعضها.
وفي النهاية تظل دموع غزة ليست مجرد بكاء على ماضٍ مؤلم أو حاضرٍ مليء بالتحديات، بل هي دموع تحمل في طياتها نصرًا قادمًا وعزة لا تُهزم. تلك الدموع، التي قد يراها البعض علامة على الضعف، هي في الحقيقة عنوان للقوة والإرادة. ففي كل دمعة، يولد أمل جديد بغدٍ أفضل، وبيومٍ تشرق فيه شمس الحرية على أرض غزة، حاملة معها نصرًا طال انتظاره وعزة لا تعرف الانكسار.
______________
(1) قضية فلسطين: أسئلة الحقيقة والعدالة، عزمي بشارة ٢٠٢٤ ص٨٠
(2) المدخل إلى القضية الفلسطينية، جواد الحمد، ٢٠٠٤، ص ٢٧٩
(3) زعماء الإصلاح الإسلامي، محمد مورو · ٢٠٢٢، الناشر:ktab INC
(4) التوراة تثبت أن فلسطين أرض عربية، دعاء الشريف، 2017 ص ١١، ١٢
(*) طالب بالأزهر الشريف – كلية الإعلام.