على مر العقود، كان الشرق الأوسط يمثل ساحة لصراعات معقدة ومتعددة الأبعاد بين دول المنطقة والقوى العالمية، ومع نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، ظهرت مسارات جديدة للنظام الإقليمي؛ ما فتح باب التساؤلات حول مستقبل المنطقة: هل سيتحول الشرق الأوسط الجديد إلى مفتاح للتطبيع السياسي والاقتصادي، أم سيكون بوابة لمزيد من التوترات والصراعات؟
آفاق جديدة ودوافع رئيسة
في السنوات الأخيرة، شهد الشرق الأوسط تغييرات كبيرة على مستوى العلاقات بين الدول العربية ودولة الاحتلال الصهيوني، فاتفاقيات السلام الموقعة بين عدد من الدول العربية من جهة، ودولة الكيان الصهيوني من جهة أخرى، كانت خطوة مهمة نحو تطبيع العلاقات في منطقة الشرق الأوسط، هذه الاتفاقيات أحدثت تحولًا في خارطة التحالفات السياسية والاقتصادية في المنطقة، وشكلت بداية لعلاقات غير مسبوقة بين دول عربية ودولة الكيان في مجالات التجارة، والسياحة، والتعاون الأمني، والتكنولوجيا.
أحد الدوافع الرئيسة للتطبيع العربي الصهيوني هو التحولات الإستراتيجية في المنطقة، والتهديدات المتزايدة؛ ما دفع بعض الدول العربية إلى إعادة تقييم أولوياتها الأمنية والتعاون مع دولة الكيان وفقاً لمصالحها في المنطقة، وسعياً لحماية نفسها ومواجهة الأخطار والتهديدات المشتركة، إضافة للدور الكبير الذي تمارسه الولايات المتحدة الأمريكية في دفع هذه التحولات، من خلال دعمها للدول الموقعة على اتفاقيات السلام، ومن أجل حماية حليفتها الصهيونية وفرض وجودها الطبيعي في المنطقة العربية كأمر واقع، والتلويح بضرب كل من يقترب منها أو معاداتها ضمن سياسة الترهيب التي تتبعها في منطقة الشرق الأوسط وتحديداً المنطقة العربية.
تأثيرات جوهرية وقضايا عميقة
على الرغم من التقدم الحاصل في مسار التطبيع، يظل الشرق الأوسط مليئًا بالتوترات التي قد تهدد استقرار هذه التغيرات، ويبقى الصراع الفلسطيني الصهيوني القضية الأبرز في هذه الديناميكيات، فمع وجود جيل جديد من العرب والفلسطينيين يرفض عملية السلام والتطبيع مع دولة الكيان، طالما بقي الصراع الفلسطيني الصهيوني دون حل، ولن يكون لدولة الكيان أي مستقبل في المنطقة طالما بقيت مصدراً للاحتلال والاستيطان والقتل والتهجير وزعزعة الاستقرار العربي في المنطقة.
وعلى الرغم من محاولات تطبيع العلاقات بين بعض الدول العربية ودولة الكيان، فإن الصراع الفلسطيني الصهيوني يظل القضية الأكثر تأثيرًا في المنطقة، وتبقى الشروط السياسية والاقتصادية التي تمثلها قضية فلسطين تثير غضبًا واسعًا في الشارع العربي؛ ما يجعل أي عملية تطبيع تتطلب معالجة شاملة للقضية الفلسطينية لضمان الدعم شعبي له.
ومن المؤكد أن التطبيع قد لا يكون مفتاحًا لتحقيق الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي في المنطقة دون معالجة القضايا الجوهرية وعلى رأسها القضية الفلسطينية، فالكثير من دول الشرق الأوسط لا تزال تواجه تحديات اقتصادية واجتماعية كبيرة، مثل معدلات البطالة المرتفعة، والفجوة الاقتصادية بين الدول الغنية والفقيرة، بالإضافة إلى التحديات البيئية التي تهدد الأمن الغذائي والمائي.
توترات متجددة وتهديدات مستمرة
مع تقدم عدد من الدول العربية نحو التطبيع مع دولة الكيان، يبقى التساؤل الأهم حول كيفية تأثير ذلك على القضية الفلسطينية، وحول ما إذا كان هذا التطبيع سيؤدي إلى تقدم في عملية السلام أو يساهم في تعزيز الاحتقان وزيادة التوترات في المنطقة.
إن القوى الإقليمية في المنطقة مثل إيران وتركيا تؤدي دورًا بارزًا في ديناميكيات المنطقة، فإيران تدعم جماعات مسلحة في مناطق مثل العراق وسورية ولبنان، وتعتبر قوتها الإقليمية تهديدًا للعديد من الدول العربية، وتركيا تحاول توسيع نفوذها في الشرق الأوسط عبر التدخلات في سورية وليبيا، زد على ذلك الصراعات المستمرة في بعض دول الشرق الأوسط مثل سورية واليمن، حيث تتدخل القوى الإقليمية والعالمية في تلك الصراعات بشكل معقد؛ ما يساهم في توسيع دائرة التوترات في المنطقة.
لا يزال الشرق الأوسط يعاني من مشكلات اقتصادية هائلة، على الرغم من أن بعض الدول تمتلك موارد ضخمة من النفط والغاز، فإن معدلات البطالة في بعض البلدان العربية تتراوح بين 20-30% خاصة بين الشباب، كما أن هناك تفاوتًا كبيرًا في مستويات التنمية الاقتصادية بين الدول الغنية والدول الفقيرة في المنطقة.
إضافة إلى أن التحولات الاقتصادية التي تشهدها بعض الدول الغنية التي تسعى إلى تقليل الاعتماد على النفط وتوسيع التنوع الاقتصادي في قطاعات مثل السياحة، الصناعة، والتكنولوجيا، لن تقلل من حدة التحديات المرتبطة بالاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية للشباب في المنطقة، ومع تفشي الفقر، وضعف الأنظمة التعليمية، وتفاوت الفرص الاقتصادية، تتزايد فرص الاحتجاجات الشعبية التي لن تمهد الطريق أمام فرص التطبيع مع دولة الكيان الصهيوني.
تؤدي الولايات المتحدة دورًا كبيرًا في تطورات الشرق الأوسط، سواء من خلال دعمها للدول الموقعة على اتفاقيات السلام مع دولة الكيان، أو من خلال مشاركتها في محاربة التنظيمات الإرهابية، فإنها تعد حليفًا إستراتيجيًا لعدد من دول الخليج العربي.
ومع قدوم مهندس عمليات التطبع في المنطقة دونالد ترمب، ومهندس الصفقات، فلربما يسعى إلى إيجاد حلول لعدد من القضايا العالقة من أجل تسريع وتيرة التطبيع التي توقفت في عهد سلفه السابق جو بايدن بسبب موقفه من الحرب على غزة، وعدم تحريك ملف القضية الفلسطينية أو التصدي لموقف دولة الكيان ووزرائها المتطرفين من الاستيطان ومصادرة الأراضي في الضفة الغربية والاعتداءات على المقدسات.
تحولات جوهرية وآفاق مستقبلية
إن استمرار القوى الإقليمية والدول الكبرى في دعم النزاعات والإخلال بالتوازنات السياسية والاقتصادية في المنطقة يدفعها للعيش في دوامة من الصراعات والتوترات والأزمات الاقتصادية والانقسامات السياسية، التي قد تقود إلى مزيد من الانفجارات، بيد أن الحل الأمثل لدعم عملية التطبيع بين دولة الكيان والدول العربية، يجب أن يسبقه إيجاد حلول للقضايا الأساسية، مثل القضية الفلسطينية، وتحولًا في سياساتها تجاه المنطقة بمزيد من التعاون السياسي والاقتصادي والانفتاح عليها بما يحقق المصالح العليا للمنطقة العربية، ووقف التهديد الصهيوني والدعم الأمريكي له على حساب الأمن العربي.
إن الشرق الأوسط الجديد قد يكون على مفترق طرق، فبينما يقدم التطبيع مع دولة الكيان إمكانيات اقتصادية وأمنية كبيرة للعديد من الدول العربية، فإن التوترات والصراعات التاريخية والفوارق الاجتماعية والاقتصادية في المنطقة تظل عقبات كبيرة على طريق الاستقرار والتطبيع، وإن استشراف مستقبل هذه المنطقة يتطلب مسارًا دبلوماسيًا متوازنًا يحترم التطلعات العربية والفلسطينية ويعزز التعاون بين دول المنطقة لمواجهة التحديات المشتركة، وقد يصبح الشرق الأوسط الجديد مفتاحًا للتطبيع إذا تمت معالجة القضايا الأساسية والجوهرية بشكل عادل وشامل، وعلى رأسها قضية العرب الأولى القضية الفلسطينية.