وصف الله هذه الأمة بأنها خيرُ أمة أُخرجت للناس، وبَيَّنَ تعالى في آيات كثيرة صفات الخيرية وسمات التميز التي استحقت بها الأمة هذه المنزلة الرفيعة، وحازت بسببها على هذا الشرف العظيم، ومن هذه الصفات اللسان العربي المبين الذي ينطق به أبناؤها، فاختار العليم الحكيم لغة العرب لتكون لغة كتابه الكريم الخالد، فأنزل القرآن عربياً غير ذي عِوَج على أكثر أهل الأرض فصاحةً، وأبلغهم لساناً؛ فآمنوا بآياته البيّنات، وحملوه إلى العالمين مبشرين ومنذرين بلسانهم المبين؛ فانقادت العقول لأوامره ونواهيه، وتذوقت القلوب حلاوة ألفاظه ومعانيه؛ فدخل الناس من مختلف البلاد في دين الله أفواجاً، وأصبحوا يتعبّدون الله تعالى بتلاوة القرآن الكريم كما نزل بلغة العرب الشريفة رغم اختلاف لغاتهم ولهجاتهم وبلادهم، وصارت اللغة العربية شعاراً لأهل الإسلام في كل مكان.
وما فتئ الزمان يدور حتى تراجعت مكانة اللغة العربية التي تسيّدت اللغات قروناً طويلة، عندما كانت لغة العبادة والعلم والمعرفة والابتكار، لغة الحضارة العريقة والأمة الفَتِيّة التي فتحت القلوب والعقول بالعلم والإقناع قبل أن تفتح البلاد بالسلاح والعتاد، وما كان تراجع مكانة اللغة العربية إلا عَرَضاً لداء خطير استشرى في جسد الأمة المُنْهَك، فأخذ يسلب مصادر عزتها وخيريتها وتفوقها الواحد تِلوَ الآخر، إنه داء التَّبَعِيَّةِ المُدَمِّر، الذي أوهم أبناء أمة الضاد بأن اللحاق برَكْبِ الحضارة والتقدم يتطلب منهم تمييع معتقداتهم، والتحدث بلغة أعدائهم الغالبة وإن كانت أقل شأناً من عربيتهم العظيمة، وإعلان البراءة من لغتهم ورميها بتهم التخلف والجمود وعدم مواكبة التطور العلمي والتقني!
وقد أحسنَ أديب الأمة في القرن العشرين مصطفى صادق الرافعي عندما سلّط الضوء على سبب ضعف الأمم وتراجعها فقال: ما ذَلّتْ لغة شعب إلا ذل، ولا انحَطَّت إلا كان أمره في ذهاب وإدبار.
وبعد مرور عقود من الزمن، ما زالت العربية تشكو عقوق بعض أبنائها، وتعاني إهمالهم لها؛ تحدثاً وبحثاً واستعمالاً في ميادين العلم والمعرفة والابتكار، وهي أفصح اللغات، وأكثرها ثراء في الألفاظ، وأوسعها لاحتمال المعاني الدقيقة التي تصل إلى الأذهان سهلةً مُيسرةً، وأجملها في الأساليب والصور والمحسنات، فلم تكن سبباً للتخلف والتراجع، بل إن التخلف عن الرَّكب يتحمل مسؤوليته حاملو هذه اللغة الذين لم يرعوها حَقَّ رعايتها، ولم يحملوها إلى العالمين كما حملها أسلافهم وأجدادهم.
فاللغة اليوم أصبحت حبيسةَ مناهج دراسية رسَّخت في أذهان الأجيال الناشئة صورة اللغة الجامدة التي يكتنفها الغموض، وتُكَبّلها قواعد الإعراب، فاقتصر الاهتمام بها والانشغال بعلومها على مجموعات صغيرة من المتخصصين والمحبين حتى تحوّلت إلى لغة «نخبوية» بعيدة عن واقع أمتها!
إن النهوض بالعربية واجب الوقت اليوم، فحُبُّ العربية لا يقتصر على يوم في السنة يحييه بعض محبيها، ولا على جامعات ومجامع وجمعيات وكليات ساهمت في تعزيز نخبويتها.
إن حُبَّ العربية دينٌ يتقرب به أبناء هذه الأمة إلى ربهم بالعناية بكتابه الكريم، وإيصال ما فيه من المعاني الشريفة إلى جميع الناس في مشارق الأرض ومغاربها، وإصلاح مناهج التعليم لتغرس في نفوس الأجيال بذرة الاعتزاز بلغة قرآنهم، وإكسابهم فنون اللغة حتى تكون العربية مَلَكَةً وسَليقةً تنطلق بها ألسنتهم، وتزدان بسحر بيانها وفصاحة ألفاظها وجزالة أساليبها أحاديثهم.