إن ارتباط الأطفال بالقصة المحكية لهم قبل النوم ارتباط عجيب، فهم ينتظرونها كل ليلة، حيث يجدون فيها المتعة، ويتفاعل خيالهم مع ما يسمعون، بل إنهم قد يحبون قصة بعينها ويطلبونها دائمًا ولا يملُّون من كثرة روايتها وتردادها.
والآباء الذين يغفلون عن قيمة قصة قبل النوم أو يهملونها يجنون على أولادهم، ويحرمونهم من باب عظيم من أبواب تطوير القدرات العقلية، واكتساب المهارات كالتركيز والنقد ورسم صور لأشخاص القصة.. إلخ.
وقد كان الأجداد والجدات يقومون بذلك عندما كانت الأسر كبيرة تشمل أجيالاً متعددة تحت سقف بيت واحد، لكن عندما استقلت الأسر الجديدة عن العائلة الكبيرة زادت الأعباء على الوالدين اللذين يكدحان في الحياة لتوفير الحياة الكريمة للأولاد، وذلك قد يسبب تفريطًا من الآباء تجاه أبنائهم، إذ يعتبرون أن القصة ترف زائد، وأن الاستغناء عنها لا يضر، وأن الأهم توفير المطعم والمشرب الجيدين، والملبس الناعم الفخم، والألعاب المختلفة التي ينفرد بها الطفل.
لكن الحقيقة أن القصة لها تأثيرات على مستويات متعددة نفسية واجتماعية وسلوكية، تقول جيما مالي، مديرة مؤسسة «بوك ترست» الخيرية للأطفال ببريطانيا: إن أولياء الأمور يجدون صعوبة كبيرة في تخصيص وقت لقراءة قصص ما قبل النوم لأطفالهم، إلا أن 10 دقائق فقط من قراءة كتاب معًا في اليوم تُحدث اختلافًا كبيرًا، فهي تساعد في بناء لغة الأطفال، والمرونة، والثقة والخيال، وهي طريقة رائعة للترابط الأسري.
وليس بالضرورة أن يملك الآباء موهبة الحكْي، فقد أصبحت القصص متوفرة التي يمكن للآباء قراءتها على أطفالهم، فالآباء في عصرنا قد لا يحتاجون حكَّاء بقدر احتياجهم لقارئ يقرأ لهم ما يستمتعون به، وفي هذا الصدد توصي جميع البحوث والدراسات السابقة الآباء بضرورة مراجعة أنفسهم فيما يتعلق بضرورة وأهمية القراءة للأطفال، حيث تؤكد الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال أهمية القراءة لنمو أدمغة الأطفال؛ لأن القراءة بانتظام مع الأطفال الصغار تحفز الأنماط المثلى لنمو الدماغ، وتقوي العلاقات بين الوالدين والطفل في وقت حرج من نموه، الذي بدوره يبني اللغة ويمحو الأمية وينمي المهارات الاجتماعية والعاطفية التي تستمر مدى الحياة.
والطفل يتعلم اللغة سماعًا قبل أن يكتبها أو يقرأها، والقصة المحكية فرصة لتعلُّم اللغة والمفردات، ففي كل قصة مغامرة وأحداث جديدة، ولكل مغامرة وحدث مفردات وتعبيرات وكلمات جديدة ومفاهيم وأفكار وأسماء لم يعرفها الطفل من قبل، فيحدث إثراء لمخزونه من المفردات والعبارات والأفكار، الأمر الذي يعينه على التعبير عن مشاعره ورؤاه وتصوراته وأفكاره بطريقة سهلة، وبأسلوب واضح، وبتعبيرات سليمة، بل لا نكون مبالغين إن قلنا: إن طرح أفكاره واستعماله اللغوي لذلك يكون أكثر منطقية من غيره من الأطفال المحرومين من تلك الجرعة اللغوية والفكرية المتمثلة في القصص.
بحسب دراسة أجراها مستشفى رود آيلاند، وجد أنَّ الرضع الذين تم قراءة القصص لهم بشكل منتظم كانت لديهم حصيلة لغوية أفضل من ناحية فهم كلمات أكثر من الرضع الذين لم يتم القراءة لهم.
والقصة قد تكون باللهجة العامية أو باللغة العربية الفصحى، ولا بأس بالمزاوجة بينهما، حيث يحتاج الطفل لتعلم اللهجة العامية للتواصل بها مع بيئته المحيطة، ولكيلا يكون غريبًا فيها، ويحتاج اللغة العربية الفصحى لثقافته ووعيه وتعليمه.
واللغة العربية السليمة المنطوقة تقرُّ في ذهن الطفل، ويحاكيها أثناء إعادته لما سمع، ومن هنا تكون لغة الطفل سليمة بداهة دون معرفة لقواعد النحو.
هذه القواعد سيتعلمها بعدما يكبر ويدخل المدارس في مراحلها التعليمية المختلفة، لكنه سيجد أنه فقط عرف القاعدة التي كان يتكلم في ضوئها وعلى أساسها.
وهنا نريد من خلال السماع الصحيح أن تتولد عنه بداهة لغوية صحيحة بعيدة عن اللحن والخطأ الذي فشا بين الكثير من أبناء الضاد.
والآباء إن كانوا متمكنين من اللغة العربية وتقل عندهم الأخطاء اللغوية أو تكاد تكون منعدمة، ويستخدمونها أثناء حكيهم لقصص قبل النوم فإنها حسنة عظيمة يقدمونها لأبنائهم، الذين سوف يحاكون آباءهم في الحديث والتكلم والحكي.
وإن كانوا غير متمكنين من اللغة العربية فالأفضل أن يقرؤوا القصص المشكولة المتاحة بين أيديهم، وأن يتنبهوا لضبط الكلمات حتى لا يقعوا في اللحن والأخطاء اللغوية الفاحشة، وأن يضبطوا مخارج الحروف كما يضبطون بنية الكلمة، وكما يضبطون الكلمة حسب موقعها الإعرابي.
فمن المشكلات أن يُحكِّم الآباء لهجتهم العامية على اللغة المعيارية، فمثلاً: ينطقون القاف ألفًا كما يفعل القاهريون والتلمسانيون، أو غينًا كما ينطقها السودانيون، أو يقلبون الغين قافًا كما يفعل بعض أبناء الجزائر، أو يقلبونها كافًا كما يفعل بعض أهل فلسطين، أو لا يفرقون بين الضاد والظاء، أو يقلبون الهمزة عينًا.. إلخ.
وإذا كان الآباء لا يستطيعون إلقاء القصص مشافهة باللغة العربية ويلحنون فيها، وكذلك هم ضعاف في القراءة من كتب القصص المشكولة، فقد توفرت القصص باللغة العربية عبر الشبكة العنكبوتية، فيمكنهم تشغيل القصة فيسمعها الطفل، وقد تكون القصة مصورة فينجذب الطفل أكثر فتتجاوب الأذن مع اللغة، والعين مع الصور والرسوم المتحركة.
فالأمر اليوم أصبح ميسورًا عن ذي قبل، وتنتفي المشقة عن الآباء، ولم يبق إلا أن يعي الآباء أهمية فعلهم في تمكين اللغة وتسهيلها على ألسنة أولادهم عبر الحكايات والقصص، وأنهم بذلك يغرسون غرسًا سوف تكون ثمرته يانعة في المستقبل، وستكون اللغة المسموعة في الصغر -عبر الحكايات- عونًا لأولادهم في الكبر في التقدم بها في هذا العالم الذي يسعى الكل لإثبات هويته، والمحافظة عليها.