نعيش اليوم في عالم غارق في بحور المغريات، تُعرض فيه أمام أعيننا كل يوم أشكال وألوان من المباحات، ويكأننا خُلقنا لنجمع مالًا ننفقه على الملذات! وكأن الحياة صارت سباقًا الفائز فيه من يملك أكثر مقتنيات!
الحياة كسلعة
وفي خضم هذا النوع من الحياة ذات الطابع الاستهلاكي، صار الجيل الحالي يواجه تحديًا يختلف عن التحديات التي خاضتها الأجيال من قبله، فبدلًا من البحث عن لقمة عيش تسد جوعًا أو شرابًا يروي عطشًا، صار البحث عما يبدو مظهره أجمل على «إنستجرام»، أو يلفت النظر أكثر على «فيسبوك».
ولم يعد التوسع في المباحات مجرد وسيلة لحياة أكثر رفاهًا، بل صار غاية في حد ذاته، فقد وطنت الحملات الإعلانية أدمغة الشباب على أن السعادة تكمن في السلعة التالية، حتى إذا ما أتت وُضعت على الرف وحل مكانها سلعة جديدة، وهذا في قائمة لا تنتهي من أسباب وهمية للسعادة ولهث لا يتوقف وراء شيء آخر جديد، وهذا ما ناقشه ليبوفيتسكي في كتابه «إمبراطورية الأزياء» (The Empire of Fashion)، وكيف أن الرغبة الدائمة في اقتناء الأشياء تُصنع عبر إستراتيجيات تسويقية تهدف إلى تحويل الإنسان إلى مجرد مستهلك.
الإباحة في الشرع
والاستهلاك ما هو إلا مظهر من مظاهر التوسع في المباحات، والمباح كما عرفه إمام الحرمين في ورقاته: ما لا يثاب «المكلف» على فعله، ولا يعاقب على تركه، والأصل في حكم التوسع في المباحات أنه مباح، لكن قد يعتري هذا التوسع ما ينقله من الإباحة إلى الحرمة، وليس هذا بغريب في الأحكام الشرعية، فالصلوات الخمس وإن كانت واجبة وجوبًا عينيًا قد تحرم بسبب مكان فعلها كمن صلاها في أرض مغصوبة، أو زمان فعلها كمن اختار إيقاع النفل المطلق في أوقات الكراهة الخمسة.
فكذلك التوسع في الإباحات إذا قاد إلى الإفراط انتقل من الإباحة إلى الحرمة، كالذي ينفق ماله على أصناف المأكولات ثم يرمي نصفها، فالشرع أباح له إنفاق ماله على ما لذّ وطاب من الحلال، كما في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (البقرة: 172)، ولكنه في الوقت نفسه حرم الإسراف وتضييع المال.
وقد لا يتخذ الإسراف صورة مادية من رمي الطعام وتضييع المال، بل قد تظهر صورته فيمن ينفق وقته آناء الليل وأطراف النهار متصفحًا لاهيًا على مواقع التواصل الاجتماعي بلا هدف غير قتل وقته، وذلك بحُجة أنه لا يفعل حرامًا متناسيًا أو جاهلًا أو كليهما أن عمره رأسماله، وهو إن لم يشغله اليوم بحق، شغله كما هي حاله الآن بباطل، وقد يكون هذا الباطل في أوله مباحًا ثم ينقاد تدريجيًا في دهاليز الفراغ حتى يواقع المحرم.
وإنني ذكرت ما ذكرت عن الاستهلاك لنعلم أن الخطر الذي نحن بصدده ليس بهين، وأن الشاب من أبنائنا اليوم لم يعد مطلوبًا منه أن يواجه شهوة نفسه فحسب، بل أن يصمد في وجه المغريات التي تنصب المليارات للدعاية لها لتظهر أمام عينيه، ولم يعد التأثير مقتصرًا على أصدقائه ودائرته، بل صار المؤثرون يطرقون بابه من كل حدب وصوب بخير أو بشر.
نحو خطاب دعوي معاصر
1- خاطبهم بلغتهم: على الناصح منا والمرشد لهذا الجيل أن يعي ما هو بصدد مجابهته؛ ليكون عونًا للشباب لا عونًا عليهم، وأن يدرك أن لغة الخطاب قد تغيرت والمعطيات قد تبدلت.
2- لا تحقرن من مشكلاتهم شيئًا: يجب على الداعي كذلك ألا يستصغر عظم ما يجابهونه، فقد لا تكون وسائل التواصل الاجتماعي جذابة لك مثلًا، لأنك قضيت معظم عمرك بدونها، أما من وُلد والعالم يكاد لا يتوقف عن استخدامها فأنى له أن يرى الحياة كما رأيتها أنت، فمن المفيد أن ترى العالم بعيونهم وأن تصاحبهم لا أن تُنظِّر عليهم فحسب، ومن وقف خطيبًا على برجه العاجي قل من يسمعه في الأسفل.
ومن هنا، فمن المهم بمكان أن يرى المربي فيمن ينصحه إنسانًا لا ملاكًا، إنسانًا له نفس ذات شقين كما قسمها الإمام الغزالي في إحيائه، شق طيني معلق بالشهوات والملذات، وشق نوراني متعلق برب البريات، وهذان الشقان متصارعان طالما كان الإنسان على قيد الحياة؛ لذا وجب على من تصدى لمهمة الدعوة أن يعي أن من يخاطبه قد رُكِّب في نفسه التعلق بالدنيا وشهواتها وملذاتها، والميل للكسل والخمول والراحة والدعة، فليست النفس كلها تشع نورًا.