لقد خلق الله عز وجل الإنسان ووضع بين يديه مقومات الفلاح كاملة كي يستطيع بكامل إرادته أن يزكي نفسه ويصل لجنة رب العالمين، ووضع بقدرته سبحانه عناصر القوة التي تلزم كل مسلم ليجبر نفسه، وينتصر على شيطانه فيختار مصيره ويحدد اتجاهه ويهزم رغباته غير المشروعة.
يقول تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا {9} وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) (الشمس)، فقد أفلح من استطاع تطهير نفسه وقدر عليها وأجبرها على الطاعة وزكاها بالتذكرة والذكر والعبادات القلبية، وترفع قدر ذاتها بالعلم والعمل الصالح، وقد خاب من كبل نفسه بالذنوب والجهل ودنسها بالمعاصي والرذائل والتدني للطبقة السفلى من النفوس الخبيثة، فكل إنسان بيده القرار الحر في اختيار الطريق سواء كان طريق الخبير أو طريق الشر، ومن الوسائل المعينة التي أتاحها الله عز وجل ليزكي الإنسان نفسه:
1- التوحيد الخالص لله تعالى:
التوحيد الخالص هو أساس بناء النفوس المسلمة على الصلاح والاستقامة والتزكية، فيقول تعالى: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (النور: 21)، ولذلك فإن الخطوة الأولى المعينة على التزكية هي إفراد الله عز وجل بالربوبية والألوهية وإثبات صفات الكمال وأسمائه الحسنى، وكانت غاية وجود الأنبياء هي الدعوة إلى التوحيد، فيقول تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (النحل: 36).
ووردت آيات كثيرة تبين آثار التوحيد في تحقيق طمأنينة النفس وتزكيتها، فيقول تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء {24} تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ {25} وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ {26} يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ) (إبراهيم).
2- الدعاء:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «الدعاء مفتاح لكل خير»، فالدعاء هو أسمى مظاهر العبودية لله عز وجل، حيث يقر العبد بعبوديته الكاملة لله بانحنائه وإلحاحه في الدعاء وإيمانه بقدرته وحده لتحقيق مراده، فالقلوب بيد الله وحدها، والأمر كله بيده سبحانه، وإذا أراد كان ما يريد.
يقول تعالى: (بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ) (النساء: 49)، وعن البراء بن عازب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل معنا التراب، ولقد وارى التراب بياض بطنه، وهو يقول: «والله لولا الله ما اهتدينا، ولا تصدقنا ولا صلينا» (رواه البخاري، ومسلم).
3- تلاوة القرآن وتدبره:
القرآن هو كلام الله عز وجل، يتعبد المسلم بتلاوته وقد وصفه الله عز وجل قائلاً عنه: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى) (طه: 123)، يقول ابْنُ الْقَيِّمِ: الْقُرْآنُ هُوَ الشِّفَاءُ التَّامُّ مِنْ جَمِيعِ الْأَدْوَاءِ الْقَلْبِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ، وَأَدْوَاءِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ(1)، فحين يقرأه المسلم بتدبر وفهم ويجاهد نفسه ويجبرها على العمل بشريعته، فقد أكرمه الله بالتزكية، قال ابن عباس رضي الله عنه: تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه، ألا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، ثم قرأ: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى) (طه: 123)(2).
4- حسن اتباع النبي:
كانت حياة النبي صلى الله عليه وسلم التطبيق العملي للقرآن، وقد قال تعالى فيه: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (آل عمران: 31)؛ قال ابن القيم: فالرسُلُ هم أطباءُ القلوب، فلا سبيل إلى تزكيتها وصلاحها إلا من طريقهم، وعلى أيديهم، وبمحض الانقياد والتسليم لهم(3).
وقال تعالى آمراً عباده بالاقتداء برسولهم عليه الصلاة والسلام: (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) (الأحزاب: 21)؛ قال الإمام سفيان بن عُيينة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الميزان الأكبر، فعليه تُعرضُ الأشياء، على خُلُقه، وسيرته وهديه، فما وافقها فهو الحق، وما خالفها فهو الباطل(4).
5- الاجتهاد في الطاعات وترك المعاصي:
المعاصي هي النقط السوداء التي إذا اجتمعت على القلب تظلمه فلا يكاد يحق حقاً أو ينكر منكراً، وكي يزكي الإنسان نفسه عليه أولاً بترك المعاصي، أو سرعة التوبة منها، والإكثار من الطاعات وتحري مرضاة الله عز وجل، وتلك هي التزكية، فهي تخلية للقب من الذنوب وآثارها، ثم تحليته بالصالحات والإكثار منها كي تصير عادة عند المسلم، يقول ابن عباس: إن للمعصية ظلمة في القلب، سواداً في الوجه، وقلة في الرزق، وبغضة في قلوب الخلق، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: فالتزكية وإن كان أصلها النماء والبركةُ وزيادةُ الخير، فإنما تحصُلُ بإزالة الشر، فلهذا صار التزكي يجمعُ هذا وهذا(5).
6- ذكر الموت وزيارة المرضى:
الموت هو خير واعظ للإنسان عامة وللمؤمن خاصة، فذكر الموت يوقظ القلب الغافل، ينبهه لحقيقة الحياة وأنها منتهية، فماذا تساوي لذة المعصية إذا كان الموت يأتي فجأة، ولم يفر منه أحد، فيقول تعالى: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ) (الْجُمُعَةِ: 8)، ويقول تعالى: (أيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) (النِّسَاءِ: 78).
7- الصحبة الصالحة:
المرء على دين خليله، والصديق على أخلاق صاحبه، ولذلك فالمسلم منذ بداية التربية يجب أن يحسن اختيار أصدقاء أبنائه، ويراقب سلوكياتهم؛ لأن لهم التأثير الأكبر أثناء مراحل التربية، وقد أمر الله عز وجل نبيه الكريم رغم نبوته بمصاحبه أهل الإيمان، فقال تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) (الكهف: 28).
8- تطهير النفس من مرض العجب:
ومرض الإعجاب بالنفس والاغترار بها أساس كل رذيلة، وهو الدافع لكل بلوى تخص القلب، حيث يقف ذلك المرض حائلاً أمام القلب من قبول الحق، ومن قبول النصح، ومن حسن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، يقول تعالى: (فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) (النَّجْمِ: 32)، ومدح النفس من الكبر والغرور والتعالي على الله سبحانه، ولذلك فقد نهى الله عز وجل عباده عنه إغلاقاً لباب الرياء والعجب.
9- معرفة مداخل وصفات النفس الإنسانية:
ومعرفة الإنسان لحقيقة نفسه ودرجة إيمانها يقربه من طريق الصلاح والتزكية، وقد قسم الله عز وجل النفس لثلاثة أقسام، فهي إما نفس مطمئنة لجنب الله عز وجل عامرة بالإيمان، أو أنها نفس لوامة، تحسن حيناً وتخطئ حيناً، لكنها مع كل خطأ تسرع بالتوبة وتلوم صاحبها وتحيي ضميره الإيماني ليعود لربه، أو أنها نفس أمارة بالسوء، وهي نفس قد فسدت فتحث صاحبها على المعصية والتفريط في حق الله تعالى، يقول الحسن البصري: الْمُؤْمِنُ قَوَّامٌ عَلَى نَفْسِهِ؛ يُحَاسِبُ نَفْسَهُ، وَإِنَّمَا خَفَّ الْحِسَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى قَوْمٍ حَاسَبُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا شَقَّ الْحِسَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى قَوْمٍ أَخَذُوا هَذَا الْأَمْرَ مِنْ غَيْرِ مُحَاسَبَةٍ.
10- الإيمان بأهمية التزكية لإنقاذ النفس في الدنيا والآخرة:
فلا يمكن للإنسان أن يعمل على تزكية نفسه إلا أن يؤمن بأهمية تلك التزكية، وضرورتها لإنقاذ نفسه من السقوط في النار وغضب رب العالمين، فهو بتزكية نفسه لا يعود بالخير على غيره فقط، وإنما هو ينفع نفسه أولاً فيقول تعالى: (وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ) (فاطر: 18).
______________________
(1) زاد المعاد لابن القيم (4/ 119).
(2) مصنف ابن أبي شيبة.
(3) مدارج السالكين (2/ 300).
(4) الجامع لأخلاق الراوي والسامع (1/ 79).
(5) الفتاوى (10/ 97).