قد يتعرض المرء لتجربة سفر إلى الخارج، وإقامة في مجتمع آخر، خاصة مع تزايد معدلات الهجرة حول العالم، وهو ما يفرض على المغترب تحديات تتعلق بدرجة تكيفه مع الظروف المحيطة به، هو وأسرته؛ نظراً لاختلاف العادات والتقاليد من مجتمع إلى آخر.
ويقدر عدد المهاجرين حول العالم بحوالي 281 مليون مهاجر، وفق تقرير الهجرة الصادر عن المنظمة الدولية للهجرة.
ويواجه أفراد الأسرة خاصة الأبناء تحديات عديدة؛ لغوية وثقافية ودينية واجتماعية واقتصادية وسياسية، وقد تزداد جسامة تلك التحديات إذا كانت الهجرة مثلاً من مجتمع عربي إلى مجتمع أوروبي أو غربي، حيث اختلاف اللغة والدين، لكن الأمر يكون أيسر حينما تكون الغربة في مجتمع عربي مماثل في العادات والتقاليد واللغة والدين.
يقول علماء النفس والاجتماع: إن المغترب يعاني مشاعر العزلة، وقد يصل الأمر إلى الاكتئاب، حال فشل سريعاً في التأقلم مع المجتمع الجديد الذي يعيش فيه؛ الأمر الذي يفرض عليه تكوين صداقات جديدة، وشغل أوقات فراغه، وتعزيز الارتباط بالله، والالتصاق بأهل الخير والطاعة، والتقرب من الصالحين، فهذا أوثق وأمتن رباط يعينه على غربته.
لكن الأمر قد يزداد صعوبة، إذا طالت الغربة، وكانت في بلد آخر لا يدين بالإسلام، حيث يشتد الصراع بين مساعي الاندماج في المجتمع الجديد، والرغبة في الحفاظ على الهوية، خاصة مع تزايد الفتن والمغريات في بلاد المهجر، وفقدان البوصلة لأبناء الجيل الثاني والثالث، وربما الانسلاخ تماماً عن وطنهم ولغتهم الأم.
هذه السطور تقدم للمغترب عدة طرق ووسائل وأساليب تعينه على التكيف مع الغربة، وتحويل المشاعر السلبية إلى إيجابية، والخروج رابحاً من تجربة السفر والغربة، شريطة العمل بما يلي:
أولاً: تعزيز الارتباط ببيوت الله، وكثرة التردد على المسجد أو المركز الإسلامي المتاح في هذا البلد، إذا كان بلداً غير عربي، والإكثار من الطاعات، والذكر، والمحافظة على الصلاة في جماعة، يقول الله عز وجل: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد: 28).
ثانياً: تكوين حاضنة اجتماعية من خلال التعرف على الأسر المسلمة وأماكن تواجدها ودراستها، وبالتالي تلافي مشاعر العزلة، وتسهيل عملية الاندماج في المجتمع الجديد، وربط الزوجة والأبناء بأسر قريبة منهم في العادات والتقاليد واللغة والدين.
ثالثاً: الاهتمام بالأسرة، وتعزيز الترابط بين أفرادها، والمحافظة على الاجتماع على مأدبة الطعام، والتحدث باللغة الأم، وعدم التساهل في ذلك داخل البيت، حتى لا يفقد الصغار هويتهم، ويتعرضوا للذوبان الثقافي والقيمي.
رابعاً: إحياء المناسبات الدينية مثل الهجرة النبوية والمولد النبوي الشريف والإسراء والمعراج وشهر رمضان، وعيدي الفطر والأضحى؛ لأن هذه المناسبات التي تتحول إلى عادات سلوكية، تحفظ الإسلام والهوية في النفوس المهاجرة، وتوطد أواصر العلاقة بين المغترب ودينه ووطنه.
خامساً: تعزيز الهوية عبر مشاهدة الأبناء للأعمال التاريخية والفنية والوثائقيات التي تنمي لديهم الإحساس بالوطن، وعظمة الانتماء إليه، وأن الغربة مرحلة مؤقتة في حياة الإنسان، سرعان ما يعود منها إلى بلده وأهله.
سادساً: ينصح الخبراء بتكوين صداقات وعلاقات جديدة مع أهل البلد الجديد، وانتقاء الصالح منهم، والاندماج بشكل متدرج في مجتمع الغربة، مع إيضاح الاختلافات، والأخذ بما يتناسب مع ثقافتنا، والنأي عما يخالف ديننا وقيمنا.
سابعاً: ضرورة إتقان لغة البلد الجديد، بحيث يتمكن الوالدان والأبناء من التعبير عن أنفسهم بشكل مفهوم وممارسة معاملاتهم اليومية، مع الحفاظ على اللغة الأم خاصة في المنزل وخلال التعامل بين أفرد الأسرة.
ثامناً: معرفة قوانين البلد الذي هاجرت إليه، والاطلاع الواسع على شؤونه وأحواله، حتى لا يقع المغترب في خطأ يكلفه الكثير، أو يتعرض لعقوبة ما تعكر صفو حياته، لذلك من الحكمة، التواصل مع من سبق لهم السفر إلى هذا البلد؛ لمعرفة ما هو ضروري عن المجتمع الجديد، قانونياً واجتماعياً وسياسياً.
تاسعاً: من آداب المغترب ألا يقطع صلته بأهله، فالرحم كما جاء في الحديث القدسي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله تبارك وتعالى: أنا الله وأنا الرحمن، خلقت الرَّحِم، وشققت لها من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها بتَتُّه» (رواه الترمذي، وأبو داود، وأحمد)، وفي الحديث النبوي: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه» (رواه البخاري)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه» (رواه البخاري).
فليداوم المغترب على الاتصال بأهله والاطمئنان عليهم، صوتياً ومرئياً، خاصة مع تزايد وتطور وسائل الاتصال والتواصل، التي تتيح للمرء الاطلاع على شؤون أهله وأقربائه على مدار الساعة، مع المحافظة على الزيارات السنوية، وتجنب الجفاء والقسوة، وطول الغياب، فهذا مما يقسي قلب المغترب، فينسى وطنه، وينقطع عن أهله، وربما تذوب هويته، ويضيع دينه.
عاشراً: على المغترب الدعوة إلى الله تعالى حيثما حل، فهذا أوثق وأمتن رباط يربطه بدينه وعقيدته وقرآنه وسُنة نبيه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه عندما أرسله إلى اليمن: «لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم»، وليكن للمغترب قدوة في سيدنا مصعب بن عمير رضي الله عنه حينما هاجر إلى المدينة المنورة ليكون أول سفير للإسلام، وقد دخل الناس على يديه إلى دين الله، فكان نِعْم الرجل في غربته، والسفير في مهمته.