تعد اللغة هي أهم أداة تواصل بين الداعية والجمهور المخاطب؛ (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) (إبراهيم: 4)، واللغة تتجاوز معاني المفردات لفهم الرموز والأجواء الثقافية والهوية الخاصة بكل أمة، فلا بد للداعية أن يكون واقفاً على نفس الأرضية المشتركة مع قومه دون حواجز تمنعه الوصول.
وإذا كانت الدعوة في بلاد الأعاجم تعتمد بشكل رئيس على إجادة الداعية للغة أهل البلاد التي تتم دعوتها وتفهمه لعاداتها وإدراكه لطبيعة هويتها وقيمها الحاكمة، فإن نفس التحدي أو قريب منه أصبح يواجه الدعاة في بلادنا العربية حيث مهبط الوحي، فهناك حواجز ترتفع يوماً بعد يوم تحول بين التواصل اللغوي التلقائي بين الدعاة والجمهور المستهدف خاصة في الأوساط الشبابية.
جهل أم تجاهل
لا يمكننا إنكار أن تعلم اللغة العربية يمر بتحديات كبيرة، فمن ناحية هناك شائعة رائجة في الأوساط الشبابية أن اللغة العربية لغة شديدة الصعوبة، وهو أمر مرتبط بغياب المهارات اللازمة لدى كثير من معلمي اللغة العربية لأسباب يطول شرحها.
ومن جهة أخرى، ارتبطت هذه الصعوبة بالمنظومة التعليمية التي أعلت من شأن تعلم اللغات الأجنبية، باعتبار ذلك بوابة للحصول على فرصة عمل مميزة، وهو ما تماهت معه المؤسسات الاجتماعية، وعلى رأسها مؤسسة الأسرة التي دفعت أبناءها بطرق مباشرة وبإشارات ضمنية للاهتمام باللغات الأجنبية، والتعامل مع اللغة العربية كمقرر دراسي ثقيل يجب اجتيازه، وإن كان لا يمثل قيمة مستقبلية تستحق ما له من درجات، فكانت النتيجة أن قطاعات واسعة من الشباب العربي لديهم جهل حقيقي باللغة العربية، ولديهم تجاهل نفسي عميق لها، ومن ثم انعكس ذلك كله على صورة حواجز بينهم وبين الدعاة.
ولا شك أن الصورة التقليدية التي قدمتها السينما والدراما العربية للدعاة وهم يتحدثون باللغة العربية بطريقة متقعرة وبمبالغة سخيفة حتى يقتنصوا الضحكات على المستوى الظاهري، تسبب في حفر أنفاق عميقة لدى العقل الجمعي لخلخلة مكانة اللغة العربية ونزع هيبتها وقيمتها، وصولاً لمحاولة ازدرائها وازدراء المتحدثين والمتواصلين بها، أو على الأقل وضعهم في زاوية رجال الدين الذين يشبهون رجال الكهنوت الكنسي.
الدعاة الجدد
تنوعت طريقة التعاطي التي واجه بها الدعاة هذه الإشكالية، وهذه الفجوة في التواصل مع الناطقين الأصليين للعربية، فمنهم من تجاهل هذه الإشكالية واستمروا على نهجهم التقليدي في الدعوة والخطبة والموعظة وأسرفوا في استخدام الشعر المليء بالمفردات غير المألوفة في عصرنا الراهن كنماذج للاستشهاد على ما يريدون طرحه، وكأنما هم في مسابقة أدبية مع فحول شعراء الجاهلية، فباتت خطبهم بالإضافة لتقليدية محتواها واهتمامها بالمناسبات الثابتة مليئة بالمفردات غير المفهومة والاستشهادات الثقيلة وحملوا على الشباب جهلهم ولم يمدوا لهم يداً للعون.
وبعضهم اهتم بحلقات خاصة لراغبي العلم الشرعي وتم تطوير دورات وأكاديميات مميزة حقاً لتعليم العلوم الشرعية مع علوم اللغة جنباً إلى جنب، وما يعيب هذه الجهود أنها موجهة للخاصة، وبعيدة تماماً عن القاعدة العريضة للشباب.
بينما حقق فريق آخر نجاحاً كبيراً وقدرة هائلة على التواصل مع شرائح متنوعة من الشباب باستخدام نفس اللغة المتداولة للشباب، فالهدف الذي يسعى إليه هذا الفريق الذي اصطلح على تسميته بـ«الدعاة الجدد»، وهو تيار يحمل داخله تباينات كبيرة، لكنها تصب في النهاية في توصيل معاني الدين للشباب باللغة التي يفهمونها باللهجات المحلية الدارجة، وبالمفردات الشبابية الخاصة التي تتغير وتتنوع وتتجدد بطريقة مطردة، حتى كأنها لغة خاصة بهم لا تفهمها الأجيال الأكبر سناً، بل وباستخدام اللغات الأجنبية التي أصبحت توصل المعنى لبعض الشباب أكثر من لغتهم العربية، فتجد الداعية يستخدم المصطلح الأجنبي كأساس، ثم يستطرد فيذكر مرادفه باللغة العربية في حالة مذهلة من تبادل الأدوار اللغوية!
يختلف المحتوى الذي يقدمه هؤلاء الدعاة عن المحتوى التقليدي، فكثير منه يشبه ما يقدم في دورات التنمية الذاتية وفنون العلاقات، وكثير منه مقتبس من كتب أجنبية ثم يتم التقريب بينه وبين ما ورد في القرآن الكريم والسُّنة النبوية، وتجد في هذا الخطاب مزيجاً من مفردات أجنبية وألفاظ عامية محلية دارجة واستشهاد بالقرآن والسُّنة النبوية بمخارج أصوات واضحة ونقية في مزيج لغوي غريب، لكنه على الرغم من ذلك يستطيع الوصول لقطاعات وشرائح وطبقات متنوعة من الشباب.
دور التحفيظ
على الرغم من الأزمة التي يعانيها الشباب في التواصل مع اللغة العربية والإحساس بها كجزء من هويته الأصيلة، فإن القرآن الذي تعهد الله بحفظه؛ (إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر: 9) سيبقى الضمان اليقيني لحفظ اللغة العربية؛ (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (يوسف: 2)، فالقرآن هو معجزتنا المتجددة الباقية والمرتبطة بهذه اللغة رغماً عن رغبة البعض في تحويلها للغة في طريقها للانقراض.
ولعل دور التحفيظ المزدهرة التي تُقبل عليها الأسر برغبة حقيقية ودون إلزام أكاديمي أكبر نموذج على ذلك، دور التحفيظ التي أصبحت تأخذ شكلاً مؤسساتياً وتبتكر منهجيات تعليمية تجعل مخارج الألفاظ صحيحة وأحكام التجويد فاعلة تقوم بعملية تطبيع طوعي لدارسيها مع لغة القرآن، بل تجعل من القرآن الكريم هوية لهم.
رواد هذه الدور يمثلون المادة الخام الأولية لتجسير الفجوة بين الدين واللغة، فلا يعانون الاغتراب اللغوي وما يرتبط به من اضطراب الهوية، ويخلقون مناخاً تفاعلياً مع اللغة، وعلى الدعاة استثمار هذا المناخ في ابتكار أدوات جديدة للتواصل والتقارب مع الأجيال الجديدة، وابتكار نماذج لغوية تستلهم من القرآن اليسر اللغوي مع عمق المعنى وتنوعه وإثرائه لكافة مناحي الحياة.
الحاجة ماسة لخطاب دعوى لغوي وسطي بعيداً عن الألفاظ الغريبة الغامضة المتقعرة، وفي الوقت ذاته لا يهبط للغة الدارجة في الشارع سواء كانت باللهجة المحلية أو عن طريق المفردات الأجنبية.
ويمكن للغة الجسد وطريقة النطق أن تمنح هذه اللغة القوة الناعمة لتشق طريقها لعقول وقلوب الشباب، والأمر ليس ببالغ الصعوبة كما قد يتوهم البعض، فالأطفال الصغار الذين يشاهدون أفلام الكارتون المدبلجة باللغة الفصحي يفهمونها جيداً ويتفاعلون معها، بل ويتحدثون مثلها ويستبدلون الفصحى بالمصطلحات الأجنبية الشائعة، بل والأكثر من ذلك لا يجدون حرجاً أو غضاضة من النطق بالعربية الفصحى، ولا غرابة في ذلك فالعربية ثرية بمعانيها جميلة بموسيقاها فخمة بمخارج حروفها.
اللغة العربية لا تعاني عطباً من أي نوع، فقط تحتاج الروح التي تنطقها بإحساس حقيقي وانفعال ملهم، وهل هناك من هو أهل للقيام بذلك أكثر من الدعاة الذين يتعبدون إلى الله بإحياء لغة القرآن؟