شهد يوم الأحد 8 ديسمبر 2024م انهيار نظام حكم عائلة الأسد التي حكمت سورية بالحديد والنار والظلم والطغيان والطائفية لأكثر من 54 عاماً، ودخلت المعارضة السورية العاصمة دمشق آخر معاقل النظام الذي هرب رئيسه بشار الأسد إلى روسيا بعد أن لطخت يده بدماء السوريين وتهجيرهم.
وفي ظل هذا التحول الخارج عن توقعات البشر في تلك اللحظات الحاسمة من تاريخ أمة الإسلام، وفي ظل معركة «طوفان الأقصى»، التي رغم آلامها، فإن هذا الحدث الكبير في سورية كتب طوق الحياة وصرخة النجاة لمستقبل هذه الأمة، فجاءت أولى ثمرات هذه المعركة هذا الفتح المبين في سورية.
أدى تغيير نظام بشار الأسد في سورية إلى طرح تساؤلات بخصوص مستقبل الاقتصاد السوري الذي أنهكه طغيان الحاكم وفساد السلطة، ومدى القدرة على الخروج به من هذا النفق المظلم إلى رحاب التنمية والعدل، إن هذا الأمر يتطلب الوقوف على واقع الاقتصاد السوري، ثم النظر في الخروج من المأزق الذي وصل إليه.
لا أحد ينكر أن سورية عندها مقومات اقتصادية، ولكن أسيء استخدامها بفعل إدارة الفساد المنظم للنظام المخلوع، ثم جاءت الثورة السلمية في العام 2011م لتجد عنف السلطة وتعطشها للدماء وإدخال البلاد في حرب البراميل، وإنهاك اقتصادها لصالح حفنة قليلة يمثلون سدنة النظام، وهو الأمر الذي فاقم من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، فتدهور الاقتصاد وبات اللجوء للسوريين سيد الموقف.
ويعكس البنك الدولي صورة عن الاقتصاد السوري، في تقرير له في مايو الماضي، حيث توقع أن ينكمش الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنسبة 1.5% هذا العام، ليزيد من الانخفاض الذي بلغ 1.2% في عام 2023م، علماً بأن الناتج المحلي الإجمالي لسورية انكمش بنسبة 54% بين عامي 2010 و2021م.
وأضاف التقرير أن الاستهلاك الخاص الذي يمثل المحرك الرئيس للنمو سيظل ضعيفاً في عام 2024م، مع استمرار ارتفاع الأسعار في ظل تآكل القوة الشرائية، ومن المتوقع أن يظل الاستثمار الخاص ضعيفاً وسط وضع أمني متقلب، وحالة كبيرة من عدم اليقين الاقتصادي والسياسي.
الإصلاح قد يتطلب وقتاً ولكن من المهم البدء فيه وفق خطة إستراتيجية واضحة المعالم
واعتباراً من عام 2022م، أثر الفقر على 69% من السكان؛ أي ما يعادل حوالي 14.5 مليون سوري، والفقر المدقع، الذي كان شبه معدوم قبل النزاع، أثر على أكثر من واحد من كل أربعة سوريين في عام 2022م، وربما يكون قد تدهور أكثر بسبب تأثير زلزال فبراير 2023م، ويتوقع ارتفاع معدل التضخم إلى 99.7% في عام 2024م، نتيجة لتدهور قيمة العملة، وانخفاض المساعدات الإنسانية، وزيادة التوترات الجيوسياسية؛ وهو ما يعني استمرار الزيادة في الأسعار بشكل كبير، وزيادة معاناة السوريين المعيشية وعجزهم عن تلبية حاجاتهم الأساسية.
وذكر التقرير أن بيانات حرق الغاز ليلاً أظهرت انخفاضاً في إنتاج النفط بنسبة 3.5% سنوياً في العام الماضي، ويرجع ذلك جزئياً إلى الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية بسبب الزلازل والصراع، كما أنه بينما كان الإنتاج في انخفاض بالفعل قبل الصراع بسبب تقادم حقول النفط، فإن الحرب سرّعت من وتيرة الانخفاض بشكل حاد.
ومن جانب آخر، ذكرت إدارة معلومات الطاقة الأمريكية أن إنتاج سورية من النفط، الذي بلغ متوسطه أكثر من 400 ألف برميل يومياً بين عامي 2008 و2010م، وصل إلى أقل من 25 ألف برميل يومياً بحلول مايو 2015م، وبلغ متوسط الإنتاج حوالي 91 ألف برميل يومياً في عام 2023م.
وأضاف تقرير البنك الدولي أن اقتصاد سورية في الوقت الحاضر مدفوع بـ«الكبتاجون»؛ إذ تعد البلاد منتجاً ومصدرّاً رئيساً له، وتقدر القيمة السوقية الإجمالية لـ«الكبتاجون» سوري المنشأ بما يتراوح بين 1.9 مليار دولار و5.6 مليارات دولار سنوياً، وهو ما يعادل تقريباً الناتج المحلي الإجمالي لسورية الذي يقدر بـ6.2 مليارات دولار العام الماضي، وفق تقرير البنك الدولي.
وتبلغ الأرباح التي تحققها الجهات الفاعلة المتمركزة في سورية، أو المرتبطة بها، من بيع «الكبتاجون» نحو 1.8 مليار دولار سنوياً؛ أي ما يعادل تقريباً ضعف الإيرادات المتأتية من جميع الصادرات السورية المشروعة في عام 2023م.
وسورية اليوم دخلت مرحلة جديدة قوامها حرية الإنسان، وتنمية سورية تبدأ من تلك الحرية التي تبني إنساناً صالحاً واقتصاداً تنموياً عادلاً، فإذا كان النظام المخلوع أهدر كل طاقات سورية من موارد بشرية وطبيعية ورأسمال مادي واجتماعي حتى باتت البنية التحتية متهالكة، فإن فرص الإصلاح الاقتصادي متاحة للحكومة السورية الجديدة، وقد يتطلب الإصلاح وقته، ولكن من المهم البدء فيه وفق خطة إستراتيجية واضحة المعالم، مع عمل خطة أزمات سريعة لمعالجة المتطلبات الضرورية القائمة حالياً.
مفتاح الاقتصاد يبدأ من ترسيخ الأمن المادي والمعنوي داخل البلاد وتعزيز المفهوم الإنتاجي
إن الاقتصاد يقوم على الثقة، وتحقيق تلك الثقة في الاقتصاد السوري بصورة عملية سيؤدي حتماً إلى انتعاش اقتصادي ولو أخذ ذلك وقتاً، وسورية تمتلك طاقات بشرية ورأسمال قوي سواء في الداخل أو الخارج، وهذا يتطلب استثمار تلك الطاقات والاستفادة من الموارد الطبيعية لإنشاء اقتصاد حقيقي بعيداً عن التسليم بالريع وجعل سياسة «الكمباوند» في المشروعات العقارية أصلاً على حساب النشاط الزراعي والصناعي وتحسين الخدمات التعليمية والصحية.
إن مفتاح الاقتصاد يبدأ من ترسيخ الأمن المادي والمعنوي داخل البلاد، وترسيخ المفهوم الإنتاجي للإسلام من خلال تنمية يراها الناس، ولن يتحقق أمن إلا بالتخلص من أصحاب القرار من ممثلي النظام المخلوع وكل فاسد، والعمل بصورة سريعة على ضبط النظام النقدي وتداول الليرة بصورة تجعل البنك المركزي قادراً على التحكم فيها إلى أن يتم تشغيل عجلة الإنتاج وتحقيق توازن للكتلة النقدية مقابل الكتلة الإنتاجية، ومن ثم التأسيس لنظام نقدي إسلامي يتناسب مع طبيعة المرحلة.
كما أن النظام المالي لا مفر منه من الاعتماد في تلك المرحلة على الضرائب، مع مراعاة أن تكون شرائحها منخفضة وبصورة تصاعدية، وهو ما يزيد الحصيلة، مع توجيه الإنفاق بصورة رشيدة لمشروعات البنية التحية وفي مقدمتها البنية التحتية الاجتماعية من تعليم وصحة، وتفعيل دور الوقف وفتح المجال لرجال الأعمال لإنشاء أوقاف توجه مصارفها إلى تلك المجالات وغيرها من احتياجات المجتمع الضرورية.
ويبقى الشيء الأهم الذي يرتبط بالاستدامة ويحقق للدولة قوتها ونهضتها بتفاعل الإنسان؛ وهو إحداث تغيير هيكلي في الاقتصاد السوري بما يملكه من مقومات من خلال هيكلة النشاط الزراعي لتحقيق الاكتفاء الذاتي من الغذاء، وهيكلة النشاط الصناعي للاستفادة من الموارد الطبيعية في التصنيع وتلبية منتجاتها لاحتياجات الداخل والتصدير للخارج، وينبغي هنا تفعيل صناعة التكنولوجيا في كل شيء.
أما النشاط الخدمي فمن الأهمية بمكان تحديد أولوياته بصورة تحقق المزايا النسبية فيه لا سيما من خلال تعزيز النشاط السياحي بما تمتلكه سورية من مقومات سياحية لحضارات متعددة.
ومن المهم كذلك الإسراع بتفعيل التمويل الأصغر، حيث إنه له قدرة سحرية على علاج مشكلة البطالة وتلبية حاجة المجتمع من السلع والخدمات ودعم ميزان المدفوعات، مع تيسير التمويل والتسويق لمؤسسات هذه النوعية من التمويل، ويمكن للزكاة والوقف والمصارف أن تؤدي دوراً مهماً في توسيع هذه النوعية من التمويل من خلال صيغ التمويل الإسلامي المتنوعة.
كما يمكن علاج مشكلة تهالك البنية التحتية من خلال إصدار صكوك إسلامية، ويمكن في هذه المرحلة إصدار صكوك استصناع على نمط نظام «BOT»، من خلالها تقوم مشروعات القطاع الخاص بإنشاء مشروعات البنية التحتية من كهرباء وماء ونقل ونحوها مع الاستفادة من منافعها لمدة معينة، وهذا لن يكلف الدولة ليرة واحدة، بل يمكن للدولة كذلك أن تحصل على جزء من إيرادات هذه المنشآت جنباً إلى جنب مع مشروعات القطاع الخاص المسند لها الأمر.