روى ابن حبان في صحيحه عن عبيد بن عمير قال: دخلت أنا وعطاء على عائشة أم المؤمنين، فقلت: أَخْبِرِينَا بِأَعْجَبِ شَيْءٍ رَأَيْتِهِ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلى الله عَلَيه وسَلم، قَالَ: فَسَكَتَتْ ثُمَّ قَالَتْ: لَمَّا كَانَ لَيْلَةٌ مِنَ اللَّيَالِي، قَالَ: «يَا عَائِشَةُ، ذَرِينِي أَتَعَبَّدُ اللَّيْلَةَ لِرَبِّي»، قُلْتُ: وَاللهِ إِنِّي لأُحِبُّ قُرْبَكَ، وَأُحِبُّ مَا يَسُرُّكَ، قَالَتْ: فَقَامَ فَتَطَهَّرَ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، قَالَتْ: فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ حِجْرَهُ، قَالَتْ: ثُمَّ بَكَى وَكَانَ جَالِساً، فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ لِحْيَتَهُ، قَالَتْ: ثُمَّ بَكَى فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ الأَرْضَ، فَجَاءَ بِلَالٌ يُؤْذِنُهُ بِالصَّلَاةِ، فَلَمَّا رَآهُ يَبْكِي، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، لِمَ تَبْكِي وَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ؟! قَالَ: «أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا، لَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ آيَةٌ، وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) (آل عمران: 190».
إنها الدعوة إلى التفكر والتدبر فيما خلق الله عز وجل، والتهديد والوعيد لمن ملك عقلاً أن يمر على هذه الآيات الكونية دون أن يعيها.
مظاهر بناء الوعي في القرآن والسُّنة
1- حث القرآن الكريم على إعمال العقل من خلال الدعوة إلى التفكر والتدبر والتذكر والاعتبار، فالله تعالى يقول: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) (البقرة: 44)، ويقول: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) (النساء: 82)، وقال عز وجل: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم: 21)، وقال تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) (الحشر: 2).
وكل ما جاء في القرآن الكريم من قصص إنما جاء من أجل العبرة والعظة، قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (يوسف: 111).
2- الرسول صلى الله عليه وسلم يصنع الوعي في قومه، حتى يتركوا عبادة الأصنام، فيتوجه إلى عقولهم بالأسئلة التي تحركها وتدعوها إلى التفكر والفهم، ومن أمثلة ذلك ما يأتي:
روى ابن خزيمة عن عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: أَنَّ قُرَيْشًا جَاءَتْ إِلَى الْحُصَيْنِ، وَكَانَتْ تُعَظِّمُهُ، فَقَالُوا لَهُ: كَلِّمْ لَنَا هَذَا الرَّجُلَ، فَإِنَّهُ يَذْكُرُ آلِهَتَنَا وَيَسِبُّهُمْ، فَجَاؤوا مَعَهُ حَتَّى جَلَسُوا قَرِيبًا مِنْ بَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَخَلَ الْحُصَيْنُ، فَلَمَّا رَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَوْسِعُوا لِلشَّيْخِ».
فَقَالَ حُصَيْنٌ: مَا هَذَا الَّذِي يَبْلُغْنَا عَنْكَ، إِنَّكَ تَشْتُمُ آلِهَتَنَا وَتَذْكُرُهُمْ، فقال صلى الله عليه وسلم: «يَا حُصَيْنُ، كَمْ إِلَهًا تَعْبُدُ الْيَوْمَ؟»، قَالَ: سَبْعَة، ستة فِي الأَرْضِ وَواحد فِي السَّمَاءِ، قَالَ: «فَإِذَا أَصَابَكَ الضِّيقُ فَمَنْ تَدْعُو؟»، قَالَ: الَّذِي فِي السَّمَاءِ، قَالَ: «فَإِذَا هَلَكَ الْمَالُ فَمَنْ تَدْعُو؟»، قَالَ: الَّذِي فِي السَّمَاءِ، قَالَ: «فَيَسْتَجِيبُ لَكَ وَحْدَهُ وَتُشْرِكُهُمْ مَعَهُ؟!»، فسكت الحصين، فقال صلى الله عليه وسلم: «يَا حُصَيْنُ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ»، فَلَمْ يَقُمْ حَتَّى أَسْلَمَ.
وقد روت كتب السيرة أن رجلاً كان يسمى غَاوِي بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى، وكان له صنم يعبده ويتعهده، وذات يوم أراد أن يسافر، فجاء بحاجاته ووضعها عنده قائلاً: احفظ لي حوائجي حتى أعود، ثم سافر وعاد عند الفجر، فوجد ثعلباً يصعد على صنمه ثم يبول عليه، فَقَالَ: أَرَبٌّ يَبُولُ الثُّعْلَبَان بَرَأْسِهِ، لَقَدْ ذَلَّ مَنْ بَالَتْ عَلَيْهِ الثَّعَالِبُ! ثُمَّ شَدَّ عَلَيْهِ فَكَسَّرَهُ.
ثُمَّ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمَ وَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا اسْمُكَ؟»، قَالَ: غَاوِي بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى، فَقَالَ: «بَلْ أَنْتَ رَاشِدُ بْنُ عَبْدالله».
بناء الوعي.. والتخلي عن الأخلاق الذميمة والتحلي بالحميدة
إن النبي صلى الله عليه وسلم قد صنع الوعي في أصحابه حتى نقلهم من عبادة الأصنام إلى عبادة الله، ثم صنع الوعي فيهم حتى نقلهم من سيئ الأخلاق إلى أحسنها.
فقد روى الإمام أحمد عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: إِنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، ائْذَنْ لِي بِالزِّنَى، فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ، قَالَوا: «مَهْ مَهْ»، فَقَالَ: «ادْنُهْ»، فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا، قَالَ: فَجَلَسَ، قَالَ: «أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ؟»، قَالَ: لَا وَاللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ»، قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ؟»، قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ! جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ»، قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ؟»، قَالَ: لَا وَاللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ»، قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِك؟»، قَالَ: لَا وَاللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ»، قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟»، قَالَ: لَا وَاللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ»، قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ، وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ»، فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ.
بل إنه صلى الله عليه وسلم استطاع أن يغرس في أصحابه مكارم الأخلاق من خلال صناعة الوعي، وذلك بتحريك عقولهم وطرح الأسئلة عليهم وضرب الأمثلة لهم، ومن ذلك ما رواه البخاري ومسلم عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَهِيَ مَثَلُ الْمُسْلِمِ، حَدِّثُونِي مَا هِيَ؟»، فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَادِيَةِ، وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ، قَالَ عَبْدُاللهِ: فَاسْتَحْيَيْتُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَخْبِرْنَا بِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هِيَ النَّخْلَةُ».
أساليب عملية في بناء الوعي
1- الحرص على التعليم، فالعلم يصنع الوعي ويحميه، ولذلك كان أول ما نزل من القرآن الكريم: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (العلق: 1)، ولما انتصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة «بدر»، وكان له من المشركين أسرى، جعل فكاك الأسير ممن يحسن القراءة والكتابة أن يعلم عشرة من أبناء المسلمين.
2- الدعوة إلى التفكر والتدبر، فقد جعل الإسلام التفكر عبادة من العبادات، حتى تكون فاعلة في بناء الوعي، عن أبي الدرداء قال: تفكر ساعة خير من قيام ليلة.
3- التحرر من التقليد الأعمى، فقد ذمه القرآن الكريم ونهى عنه، لأنه يهمل العقل تماماً، ويجعل فاعله كأنه أعمى.
4- عدم إدخال العقل فيما ليس له، فالعقل يفكر ويتدبر في المساحة التي خلقه الله لها، ولا يتجاوزها حتى لا يضل وينحرف، عن خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَأْتِي الشَّيْطَانُ الْإِنْسَانَ فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ؟ فَيَقُولُ: اللهُ، ثُمَّ يَقُولُ: مَنْ خَلَقَ الْأَرْضَ؟ فَيَقُولُ: اللهُ، حَتَّى يَقُولَ: مَنْ خَلَقَ اللهَ؟ فَإِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ ذَلِكَ، فَلْيَقُلْ: آمَنْتُ بِاللهِ وَرَسُولِهِ».