من العوائق التي تقف في الطريق إلى الله تعالى محدودية الفكر والغفلة عن مآلات الأمور، حيث نجد البعض يتحرك بعيداً عن فقه الواقع الذي يعيش فيه، وإذا أراد أن يتعامل مع واقعه تعامل معه بضيق أفق متناسياً أو متغافلاً عن عواقب هذا العمل.
ومن هذا المنطلق، وجدنا علماء التربية عندما أرادوا أن يصفوا هذا العائق قالوا: هو ضعف أو خلل في البصيرة يؤدي إلى حصر التفكير في حدود ضيقة لا تتجاوز المكان والزمان، دون النظر إلى البعيد، ودون تقدير للمآلات والآثار والعواقب، ولعل في قوله تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج: 46) دعوة إلى عدم الوقوع في مأزق هذا العائق.
العاقبة
ولهذا العائق عواقب سيئة على الفرد، وعلى العمل الإسلامي، فعلى مستوى الفرد: يبدد جهوده ويهدر طاقته في أمور هامشية، ومن ثم يفقد قدرته على مواجهة المهام الجسام، والتبعات الضخمة، وعندئذ يصيبه اليأس والقنوط مما يترتب عليه قعوده عن القيام بواجبه، فيحرم من توفيق الله تعالى.
أما على مستوى العمل الإسلامي: فيتسبب هذا على العائق في تشويهه، وقد رأينا ذلك عندما تشاغل بعض أبناء الحركة الإسلامية بصغائر الأمور، وهو ما اتخذه أعداء الإسلام تكأة للتشويه وتقديم الإسلام على أنه سبب في تفريق الناس وتشتيت جهودهم!
وكذلك سيحرم هذا العائق العمل الإسلامي من الأنصار والمؤيدين، ومن ثم يسهل ضربه، أو في أقل تقدير الرجوع به إلى الوراء عشرات السنين.
الأسباب
لإصابة البعض بهذا العائق أسباب كثيرة ومتنوعة، نخص منها:
– النشأة والبيئة: وذلك أن البعض قد ينشأ في بيئة لا تهتم بتنمية ذكاء أبنائها، فينتج عن ذلك انحسار في التفكير والابتعاد عن معرفة مآلات الأعمال.
– الصحبة: وذلك يأن يحيط الفرد نفسه بمجوعة من محدودي الفكر وقصيري النظر، فيظن أن ما يراه من تفكير محدود هو قمة الإبداع، فيقع فيما وقعوا فيه!
– عدم فهم حقيقة الإسلام: وذلك بأن يعتقد أن الإسلام يتمثل في الهدي الظاهر مثلاً، أو أنه يتمثل في محاربة البدع، أو أنه يتمثل في دراسة العقيدة وفقط! وينسى أن الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعاً، ولعل هذا هو السر في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) (البقرة: 208).
– الجهل بخطط الأعداء: وذلك أن المسلم عندما يجهل أن أسلوب عمل الأعداء يقوم على الدهاء والمكر والخديعة، تضيع عليه فرصة اكتساب الخبرات والمهارات، فيضيق فكره ويبتعد عن معرفة مآلات الأمور.
– الإعجاب بالنفس: حيث إن الإنسان عندما يكون معجباً بنفسه يظن أن ما عنده من فكر هو آخر المطاف، ومن ثم يرفض ما عند غيره من فكر جديد يصطدم مع فكره المحدود.
– الجهل بتاريخ الدعوة: وذلك أن البعض ينصرف عن دراسة ما حدث لرجال الدعوة على مدار التاريخ، ومن ثم يحرم نفسه من خبرتهم في التعامل مع الأحداث، ولعل هذا بعض السر في قوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (يوسف: 111).
كيف يعرف الفرد أنه مصاب بمحدودية الفكر؟
لمحدودية الفكر مظاهر كثيرة، منها:
– التبرم الشديد بالمنهج الدعوى أو الحركي الذي ارتضته الجماعة المسلمة، ووصف هذا المنهج بالتخلف، وعدم القدرة على مواكبة ظروف ومستجدات العصر، بل ووصف القائمين عليه بالركون إلى الدنيا إيثاراً للعافية والسلامة.
– حصر الجهد في جوانب، وإن كانت مفيدة إلا أنها ثانوية، تستهلك طاقة كبيرة، ووقتاً طويلاً، مثل محاولة جمع الناس على رأي واحد في مسائل الفروع، أو المسائل المختلف فيها.
– الصلابة أو الشدة عند التقصير في سُنة من السنن، أو هيئة من الهيئات، والسكوت وعدم تغير القلب أو تمعر الوجه عند تضييع فريضة من الفرائض، أو واجب من الواجبات.
– علاج المشكلات التي تعاني منها الأمة الإسلامية بطريق تعاطى المسكنات دون البحث عن أصل الداء، وسبب العلة، ثم اجتثاث هذا الأصل، أو هذا السبب من جذوره.
– استعجال النتائج أو قطف الثمار قبل أوانها وقد قيل: من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه(1).
العلاج
لكي يُبعد الفرد نفسه عن هذا المرض يجب أن يأخذ بما يلي:
1- التعود على حمل المسؤولية؛ فإن ذلك يكسب الإنسان الخبرات، وينمي لديه المواهب واتساع الأفق.
2- الابتعاد عن صحبة ذوي الفكر المحدود، ومصاحبة ذوي الخبرات والتجارب الذين عُرفوا بسداد الرأي مع التواضع وخفض الجناح لهم، فإن ذلك يؤدي إلى تنمية المواهب واتساع الأفق.
3- الفهم الدقيق للمنهج الإسلامي وكيفية تطبيقه والتمكين له في الأرض، فإن هذا الفهم يحمل صاحبه على علو الهمة في اكتساب الخبرات والمهارات.
4- الإلمام الواعي بواقع الأعداء وأسلوبهم في العمل، فإن ذلك يحمل صاحبه على قدح زناد فكره من أجل إبطال خطط الأعداء وتفويت الفرصة عليهم.
5- حسن الصلة بالله تعالى وترك المعاصي، والمواظبة على عمل اليوم والليلة، فإن ذلك هو السبيل للحصول على الحكمة، قال تعالى: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) (البقرة: 269).
6- دوام الاطلاع على خبرات وتجارب الماضين؛ فإنها مليئة بالكثير من المواقف التي تُكسب الخبرات والتجارب، وتُنمي المواهب والقدرات وتوسع الفكر.
يُروى عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه في أثناء حربه مع الرومان في فتح مصر دعاه قائد «حصن بابليون» الروماني ليحادثه ويفاوضه، بينما أعطى أمراً لرجاله بإلقاء صخرة فوقه لدى خروجه من الحصن، وأعد كل شيء ليكون قتل ضيفه محتومًا.
ودخل عمرو على القائد الروماني، وجرى اللقاء بينهما، وحين خرج عمرو في طريقه للانصراف إلى خارج الحصن، لمح فوق الأسوار حركة مريبة أيقظت فيه حاسة الحذر، وسرعان ما تصرف بشكل مفاجئ، إذ عاد إلى داخل الحصن بخطوات مطمئنة وملامح بشوشة واثقة، كأنما لم يفزعه شيء، ولم يثر شكوكه أمر.
ودخل عمرو على القائد الروماني وقال له: تذكرت أمراً، وأردت أن أطلعك عليه، إن معي حيث يقيم أصحابي جماعة من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم السابقين إلى الإسلام، لا يقطع أمير المؤمنين بأمر دون مشورتهم، ولا يرسل جيشاً من جيوش الإسلام إلا جعلهم على رأس مقاتليه، وقد رأيت أن آتيك بهم حتى يسمعوا منك مثل الذي سمعت، ويكونوا من الأمر على مثل ما أنا عليه من بيّنة.
وهنا ظن قائد الروم أن عمرواً بن العاص منحه بسذاجة وغباء فرصة العمر، فصمم على أن يسايره ويوافقه على رأيه حتى إذا عاد ومعه تلك النخبة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخيرة رجالهم وقادتهم قتلهم جميعاً بدلًا من أن يقتل عمرواً وحده، وأعطى القائد الروماني إشارة خفية لجنوده وأمرهم بتأجيل الخُطة التي كانت معدة لاغتيال عمرو، وودعه بحرارة أكبر من السابق، فابتسم عمرو وهو يغادر الحصن آمناً مطمئناً، وفي الصباح، عاد عمرو إلى الحصن على رأس جيشه، وقام بفتح مصر(2).
عندما يقرأ أحدُنا أمثال هذه المواقف الممتلئة بها كتب التاريخ والسير، يتعلم كيف يتعامل مع خطط الأعداء وغدراتهم، ومن ثم يتسع فكره ويعرف مآلات الأمور.
______________________
(1) آفات على الطريق، د. السيد محمد نوح (1/ 234)، بتصرف
(2) كتاب مقتطفات من السيرة، الدكتور عمر عبدالكافي (1/ 19)، بتصرف.