عدد لا بأس به من الدراسات الاستشراقية تذهب لادعاء أن اليهود كان لهم أثر كبير في النص القرآني وفي التعاليم الإسلامية الأولى، وأن المسلمين أخذوا تسميات الأماكن المقدسة من العبرية التي تعتبر اللغة الرسمية لليهود في «إسرائيل» اليوم!
وتذهب هذه الرواية أبعد لتدعي مثلاً أن ورقة بن نوفل الذي كان له الفضل في شرح مفهوم الوحي للنبي محمد صلى الله عليه وسلم في أول أيام نزول القرآن لم يكن إلا حبراً يهودياً، واعتمدت في ذلك على حديث السيدة عائشة رضي الله عنها في صحيح البخاري، الذي تقول فيها عائشة: «وكان يكتب الكتاب العبراني»، لكن هذه الرواية اقتطعت هذا الجزء من النص، حيث يقول النص: «وكان امرأ تنصَّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله له أن يكتب».
ومن الواضح هنا أن قراءة هذا النص تبين بوضوح نية الاجتزاء لدى بعض مروجي الرواية «الإسرائيلية»، فورقة كان مسيحياً، وكان يكتب الإنجيل، وأما ذكر العبرانية هنا فإنه يعتبر في الحقيقة دليلاً على أن العبرانية ليس لغة يهودية كما تصور الآلة الإعلامية «الإسرائيلية» اليوم، وإنما هي لهجة من اللهجات العربية الكنعانية القديمة المعروفة في بلاد الشام مثل الآرامية وغيرها.
واللافت أن كثيراً من الدراسات التي يبثها أصحاب هذه المدرسة تعتمد أساساً على وثائق «جينيزا القاهرة» المكتشفة في مصر، التي ترجع إلى الفترة ما بين القرن الحادي عشر إلى الثالث عشر الميلادي؛ أي إلى فترة الحروب الصليبية.
ذلك أن هذه الوثائق كتبت بالحروف العبرية -وإن كانت تقرأ باللغة العربية- وهو ما حدى بأقطاب المدرسة الأكاديمية «الإسرائيلية» إلى ادعاء أن الأصل في التسميات والنصوص الإسلامية المتعلقة بالقدس هو الديانة اليهودية بالاستدلال باللغة، حيث يزعم بعضهم مثل شلومو دوف غويتين أن لفظ «بيت المقدس» الذي يشير في الأحاديث الشريفة إلى المسجد الأقصى ما هو إلا تحريف عن العبارة العبرية «بيت هاميقداش»؛ ما يشير، حسب هذا الفهم، إلى أن أصل فكرة قدسية المكان هو اليهودية، وذلك لأن المسلمين، حسب هذا الزعم، استعاروا من العبرية حتى اسم المكان وحرفوه إلى «بيت المقدس».
والواقع أن هذا الكلام فيه من المغالطات الشيء الكثير، فكما بينا سابقاً عند الحديث عن ورقة بن نوفل، فإن ما يسمى «العبرانية» في ذلك الوقت لم تكن لغة مختلفة كما يحاول بعض اللغويين من أتباع المدرسة الاستشراقية الادعاء، وإنما هي لهجة من اللهجات العربية القديمة التي ترجع إلى الكنعانيين العرب الأوائل.
ولفظ «بيت المقدس»، بالتالي، لا يشير من قريب أو بعيد إلى لغة عبرانية أصلاً؛ لأن العبرانية ليست لغة مستقلة، وإنما هي حروف أبجدية تستعمل فيها ألفاظ عربية قديمة ما زالت موجودة، وحتى وثائق «جينيزا القاهرة» تؤكد هذا الاتجاه، ذلك أن أغلبها مكتوب بالحروف العبرية، ولكن باللغة العربية الفصيحة، ويمكن لأي شخص يعرف الحروف العبرية -وهي حروف تطورت عن العربية الكنعانية التي تسمى الفنيقية- أن يقرأ نصوص هذه الوثائق بمنتهى السهولة.
كما أن مقارنة بسيطة لألفاظ اللغة المسماة اليوم «العبرية» في نصوص شواهد القبور والمشاهد الكبيرة في منطقة الحِجر (مدائن صالح) التي نقشها العرب القدماء في هذه الجهة والعرب الأنباط كذلك تبين هذه الحقيقة؛ لأن كثيراً من الألفاظ المستعملة في العبرية هي نفسها التي كان يستعملها العرب الأنباط والكنعانيون القدماء.
وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن العربية الكنعانية التي شكلت الأرضية المشتركة لما نعرفه اليوم بالآرامية والعربية والعبرية كانت هي الأصل اللغوي لكل هذه اللهجات التي تحولت، حسب فهم أتباع مدرسة الاستشراق، إلى لغات منفصلة، خاصةً أن العربية القرشية والشامية تختلف بشكل كبير عن الحِميَرِيَّة واليمنية التي يدعي البعض أنها أصل العربية المعروفة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وحتى في عهدنا، وهو ما ينص عليه أبو عمرو بن العلاء في قوله: «ما لسان حِميَرَ وأقاصي اليمن بلساننا ولا عربيتهم عربيتنا».
فكلمة «بيت المقدس» وحتى «بيت هاميقداش» التي يعتمدها اليهود اليوم كلمة عربية خالصة كنعانية الأصل ليس لعبرية اليوم علاقة بها، بل إن العبرية حين تحولت إلى لغة مستقلة أخذت هذه العبارات من العربية التي تعتبر الأصل التي ترجع له جميع اللهجات في هذه البقعة.