كان الواقع السوداوي الذي عاشه أهل قطاع غزة منذ بدء الحصار المدقع عليهم منذ 17 عامًا دافعًا للفنان الكوميدي علي نسمان، حيث آمن أن الفن الساخر الكوميدي هو الطريقة الوحيدة ليجسد حياة الفلسطيني المرهقة، فقد كان يقول دومًا: «لن يستطيع أحد أن يجسد المشهد الفلسطيني مثل الفنان الفلسطيني نفسه».
مقاوم بالفن الكوميدي
تقمص الفنان المقاوم نسمان، ابن مخيم جباليا، الذي يبلغ 35 عاماً من عمره دور الكوميدي الساخر، واستثمر فنه بالدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني لا سيما الأطفال والنساء والذين هم أكثر الضحايا في الحروب ووقت الأزمات.
كثير من الأعمال الفنية شارك فيها نسمان، كالمسلسلات الفنية الدرامية وأغاني المونولوج، التي لاقت في قلوب الناس أثراً كبيراً؛ لأنها كانت تلامس نفوسهم وتحاكي واقعهم وآلامهم وتجسد معاناتهم، كبوابة السماء والروح، ومسلسل شارع نصر جلبوع عام 2022م.
مسلسل «بوابة السماء» كان من أبرز أعماله التي علقت في أذهان الناس داخل غزة وخارجها، وهو مسلسل فلسطيني عرض عام 2017م في رمضان على قناة «الأقصى» الفضائية، وكان عبارة عن حلقات درامية تصور معاناة مدينة القدس اليومية، وتجسد حياة المقدسيين القاسية التي يحدد معالمها محتل غاشم بسبب الحواجز والتفتيش والضرائب الباهظة والملاحقات والاعتقالات وهدم البيوت وإغلاق الدكاكين القديمة.
على أرض غزة، أنتج مسلسل «بوابة السماء» بإمكانات قليلة، فقد تم إنشاء مدينة إنتاج تحاكي شوارع القدس بأصالتها وعراقتها؛ لأن المسلسل منع من التصوير في القدس بعنجهية من الاحتلال، الذي فضح سياسة الاستيطان التي تمارسها سلطات الاحتلال في القدس ومحاولة تهويد المدينة بكل تفاصيل الحياة فيها.
المسلسل الثاني الذي أنتجه نسمان «عالبركة»، وكان ذا طابع اجتماعي وسياسي بقالب كوميدي، أطلقه مع مجموعة من أصدقائه؛ لأن الظروف بعد حصار غزة حالت دون إطلاقه بمستوى عالٍ كما كان يريد، وفي جائحة «كورونا» اكتشف نسمان موهبة زوجته خلود في التمثيل، فأصبحت شريكته في هذا المسلسل، كما هي شريكته في الحياة والنجاح والطموح.
فقد نسمان عام 2002م أخاه الشهيد المناضل حسن نسمان بعد «انتفاضة الأقصى»، فكان يتأثر تأثراً شديداً في كل مشهد يحاكي مشهد وداع الشهداء، ويبكي بكاء حقيقياً يصل لقلوب المشاهدين.
منذ السابع من أكتوبر كثف نسمان عمله على الفيديوهات التي تعزز ثبات وصمود أهل غزة، كما كان ينشر الفيديوهات التي تظهر بطش المحتل وانتهاكاته لشعب أعزل، يحفز الناس على الصمود على أرض غزة رغم عنجهية المحتل وبطشه.
حين اشتدت الأحزمة النارية حول بيته الذي صمد فيه ولم ينزح منه، سجل فيديو وقال في مقدمته: «مش قادرين على الجنود الفلسطينيين، وهذا ما وعدنا به الله ورسوله، خضنا هذه الأرض لكي نستعيد أرضنا ونعلم أن هذا سيكون الثمن».
أما في ختامه، فقال مقهوراً: «وأنا أتحدث إليكم يمكن أن ينزل على رأسي حجر من البيت المهدم هذا، وتنتهي الرسالة أو الرواية وهو شرف عظيم.. شرف عظيم إنه ربنا يصطفي منا الشهداء، حياك الله يا شعب فلسطين، والله مهما فعلتم لا نخاف أو نهاب أحداً غير الله».
بعد هذا الفيديو، ارتقى علي نسمان شهيداً بقصف على منزله في 13 أكتوبر، تاركاً أثراً كبيراً لا يمحى مع الأيام، فهو ناشط سياسي وكوميدي ومدون فلسطيني، بل كان من أبرز المدونين، الذين نشطوا ضد الاحتلال «الإسرائيلي».
أنهى نسمان الثانوية العامة وحصل على شهادة البكالوريوس في إدارة المال والأعمال ثم على الدبلوم في إدارة المنظمات، بينما تركز عمله في مجال النجارة، ورغم ذلك فإنه حرص على أن يكون نموذجاً للفنان الفلسطيني المقاوم.
قلم موجوع
الشاعرة والكاتبة الفلسطينية هبة أبو ندى، واحدة من اللواتي كتبن سيرتهن بالعلم والإبداع والدم أيضاً، وهي قاصة من غزة تعود أصولها إلى قرية بيت جرجا المهجرة، بينما ولدت في المملكة العربية السعودية وعادت إلى غزة مع عائلتها.
نذرت أبو ندى قلمها وموهبتها في الكتابة لأجل فلسطين والقدس، كتبت عن حياة أهل غزة بما فيها من المعاناة والحصار، حصلت على شهادة البكالوريوس في مجال الكيمياء الحيوية، والماجستير في التغذية السريرية من جامعة الأزهر في غزَّة، وعملت في مركز «رسل» التعليمي كمشرفة على الأطفال الأذكياء والمبدعين في مجال العلوم.
أصدرت أبو ندى روايتها الأولى «الأكسجين ليس للموتى»، وحصلت بها على المركز الثاني بجائزة الشارقة للإبداع العربي عام 2017م، كما شاركت في دواوين شعرية كثيرة، منها: «شاعر غزة»، و«العصف المأكول»، و«أبجدية القيد الأخير».
رواية «الأكسجين ليس للموتى» كانت من أبرز كتابات الشاعرة أبو ندى، التي تتناول قضايا الحرية والعدالة والواقع الفلسطيني والعربي، وتجسد تفاصيل الرواية رؤية العربي وحلمه في التحرر وتغيير ظروف بلاده.
مشاعر كثيرة أحبت أبو ندى أن تعبر عنها في روايتها، كرغبتها في تلاحم الشعوب، وتتحدث عن قضايا الحرية الشخصية والتضحية والأمل في ظل القمع والاحتلال، كما عبرت في كتاباتها كثيراً عن حرمان الاحتلال لشباب غزة أن يشقوا طريقهم خارجها بسبب إغلاق المعابر كلها، والمشاركة في المؤتمرات وحفلات توقيع الكتب والفعاليات الدولية التي تقام خارج حدود المدينة المحاصرة.
كما كان لها باع طويل في العمل كمتطوعة في الموسوعة الحرة (ويكيبيديا» عام 2021م، في برنامج التعليم الذي عُقد عن بُعد، وحمل اسم «ويكي رايتس»، عدا عن أنها كانت متمكنة من اللغة فعملت مدققة لغوية للمقالات فيها ولكثير من الكتب والروايات الصادرة عن كتاب وشعراء عرب.
13 يوماً كان نصيب أبو ندى من العيش في ظل حرب الإبادة بحق أطفال غزة ونسائها، كتبت خلالها تغريدات يومية تعبر عن قهرها بسبب خذلان القريب والبعيد لغزة.
ولشدة قهرها وشعور العجز الذي سيطر عليها، تخيلت شكل غزة التي بنيت في السماء فقالت: «نحن في الأعلى نبني مدينة ثانية، أطباء بلا مرضى ولا دماء، أساتذة بلا ازدحام وصراخ على الطلبة، عائلات جديدة بلا آلام ولا حزن، وصحفيون يصورون الجنة، وشعراء يكتبون في الحب الأبدي، كلهم من غزة كلهم.. في الجنة توجد غزة جديدة بلا حصار تتشكل الآن».
رحلت هبة أبو ندى تاركة إرثاً لكل من نذر قلمه لأجل غزة وفلسطين، بينما تركت تغريدات تصف حال أهل غزة في أول أيام الإبادة فكانت آخر حروفها: «نحن في غزة عند الله ما بين شهيد وشاهد على التحرير، وكلنا ننتظر أين سنكون، كلنا ننتظر اللهم وعدك الحق».
فكان هذا المنشور بمثابة منشور نعي لها بتعليقات أصدقائها الذين تفاجؤوا أنه المنشور الأخير لها حين نعتها عائلتها ووزارة الثقافة الفلسطينية، فبينما انتظر متابعوها داخل وخارج غزة تغريدتها التالية، ارتقت أبو ندى إثر قصف الاحتلال الغاشم بصواريخ مجنحة على البيت الذي نزحت إليه وعائلتها في خان يونس جنوب قطاع غزة، لتبقى رواياتها وحروفها شاهدة على شخصية أفنت حياتها لأجل أهل غزة المقهورين.