تواجه لغتنا العربية تحديات كبيرة تهدد مكانتها في حياة شبابنا، وتعد العولمة أبرز هذه التحديات بعدما غزت الثقافات الأجنبية معظم مجالات حياتنا اليومية؛ ما أثر على طريقة التفكير والتواصل لدى الشباب، وجعل الفجوة بينهم وبين لغتهم الأم تتسع بشكل ملحوظ، حتى في كلامهم اليومي على منصات التواصل.
فالواضح من واقع رصد هذه المنصات أن استخدام اللغة العربية يتراجع أمام هيمنة اللغات الأجنبية، خاصة الإنجليزية، أو تهجين العربية بالإنجليزية أو الفرنسية سواء من حيث بنية الكلمات أو كتابتها؛ ما يمثل تهديداً لهوية أمتنا، وليس مجرد تراجع ثقافي، فلغتنا العربية ليست مجرد أداة تواصل فحسب، بل هي جزء من هوية الفرد والمجتمع التي أصلها القرآن الكريم في قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) (إبراهيم: 4)؛ ما يشير إلى أن اللغة ليس مجرد وسيلة تعبير عن الأفكار، بل هي وسيلة التعبير الأساسية عن الهوية الثقافية والدينية.
هذا الارتباط بين اللغة والهوية أكثر بروزاً في حالة لغتنا العربية، فهي اللغة التي ترتبط بكتاب الله الخاتم، وتحمل في طياتها جذوراً دلالية تتجاوز مجرد المعنى السطحي للكلمات؛ وبالتالي فهي أداة لفهم التراث الثقافي والحضاري، وتراجع استخدامها في الحياة اليومية يساهم في ضعف الانتماء لدى شبابنا، ويهدد ارتباطهم بهويتهم الإسلامية.
إن أهم الأسباب التي ساهمت في هذا التراجع للغتنا تتمثل في اعتماد انتشار اللغة الإنجليزية بشكل كبير كلغة للتعليم في عالمنا العربي، حتى أصبح إتقان اللغة الإنجليزية شرطاً للالتحاق ببعض المدارس الابتدائية! ولذا يعتقد كثير من شبابنا اليوم أن تعلمها هو السبيل الوحيد لتحقيق النجاح المهني والتطور الشخصي.
وهذا الاتجاه ليس مقتصرًا على التعليم، بل يتعداه إلى وسائل الإعلام والمحتوى الترفيهي الذي يستهلكه الشباب يومياً بشكل مكثف، وبينما يتزايد عدد المتحدثين باللغة العربية يتراجع التفاعل مع المحتوى العربي على الإنترنت لصالح المحتوى الأجنبي، خاصة ذلك الذي يُقدم باللغة الإنجليزية.
وإزاء ذلك، أصبحت اللغة العربية في غربة بين أبنائها، خاصة أولئك الذين ينتمون إلى طبقات اجتماعية ميسورة ويتلقون تعليماً أجنبياً، وبات من المتعارف عليه بين شبابنا استخدام كلمات إنجليزية بشكل طبيعي، مثل «هاي» و«باي» بدلاً من مرحبًا ووداعًا.
وهذا التأثير لا يقتصر على التواصل الشفهي فقط، بل يشمل أيضًا الرسائل النصية على وسائل التواصل الاجتماعي، التي أصبحت أكثر استخدامًا للكلمات الإنجليزية، ووصل ذلك إلى حد استخدام 42% من الشباب في الجزائر لمزيج من اللغة العربية مع اللغات الأجنبية في حياتهم اليومية، بحسب دراسة أجراها الباحث سالم سالمين حميدان عام 2023م؛ الأمر الذي أنتج ظواهر كتابية على منصات التواصل، مثل «العربيزي» و«الفرانكو عربي».
وتعد هذه الظاهرة انعكاساً لانعدام التوازن في استخدام اللغات تعليمياً، وتظهر بوضوح في بعض المدارس بالبلدان التي تتبع نظمًا تعليمية تعتمد على اللغات الأجنبية، يتم تدريس اللغة الإنجليزية كلغة أساسية على حساب اللغة العربية؛ ما يؤدي إلى تراجع استخدام الفصحى في حياتهم اليومية، ويجعل اللغة العربية في مرتبة ثانوية في أذهان الشباب.
ولا شك أن نقص المحتوى العربي الجذاب والمتنوع يسهم في تفشي هذه الظاهرة، فالمحتوى العربي فقير في كثير من التخصصات، ولذا يلجأ كثير من الشباب إلى المحتوى الأجنبي الذي تتصدره الإنجليزية.
لكن ماذا يمكننا أن نفعل للحفاظ على اللغة العربية في مواجهة هذه التحديات؟ الإجابة ترتبط بتكاتف الجهود بين مختلف المؤسسات لتحفيز استخدام اللغة العربية وتعزيز مكانتها بين شبابنا، ونرى أن تبدأ هذه الجهود من خلال تعليم اللغة العربية بطرق مبتكرة تتواكب مع العصر الرقمي الذي نعيش فيه؛ مرحلة الذكاء الاصطناعي.
فعلى سبيل المثال، يمكن تطوير تطبيقات ومنصات تعليمية موجهة للشباب تدمج بين التعلم والترفيه، مثل الألعاب التعليمية أو منصات قراءة الروايات العربية عبر الإنترنت، وإطلاق مشاريع لدعم الذكاء الاصطناعي للغة العربية، وهو ما بدأه مشروع أطلقته وزارة التعليم في الإمارات لتطوير المناهج الدراسية.
وإلى جانب التعليم، يمكن للفن أن يؤدي دورًا مهمًا في تعزيز اللغة العربية من خلال إنتاج محتوى ترفيهي وسينمائي يحترم قيمة اللغة العربية.
ويمكن لوسائل الإعلام أن تساهم في خلق بيئة تشجع على استخدام العربية في مجالات متعددة، ومن أبرز الأمثلة على ذلك البرامج التعليمية التي تبث عبر الإنترنت وتعزز من أهمية اللغة العربية في الحياة اليومية.
ويحضرنا، في هذا السياق، الإشارة إلى دور قنوات مثل «ناشيونال جيوغرافيك» العربية في تبسيط اللغة العربية وتعزيز استخدامها بين الأطفال والشباب.
ومن بين الإستراتيجيات الأخرى المهمة للحفاظ على لغتنا، تحفيز الشباب على القراءة باللغة العربية، ويمكن أن يتم ذلك من خلال تنظيم مسابقات وفعاليات ثقافية في المدارس والجامعات تشجع على قراءة الكتب العربية الرصينة، كما أن تشجيع الإنتاج الإبداعي باللغة العربية يمكن أن يسهم في إعادة إحياء اللغة بين الشباب، سواء في مجالات الكتابة، أو التدوين، أو صناعة المحتوى على الإنترنت.
إن الحفاظ على لغتنا العربية مسؤولية جماعية تتطلب جهوداً من الأسر والمدارس والإعلام وصناع القرار، ويجب أن نُدرك جميعاً أن فقدان لغتنا يعني فقدان مكون رئيس من مكونات هويتنا الثقافية والدينية، وأن تعلم اللغة العربية لا يقتصر على تواصلنا اليومي، بل هو طريق لفهم أعمق لثقافتنا وهويتنا، ولذا فإن العمل على تعزيز مكانتها في حياة شبابنا مسألة مصير وليس مجرد مشروع ثقافي.