لغات البشر تولد وتنمو وتتطور وتشيخ، وإما أن تندثر أو تتحول إلى لغات أخرى، فاللاتينية مثلاً كانت لغة شبه الجزيرة الإيطالية وروما القديمة، انتشرت عبر المتوسط إلى أجزاء واسعة من أوروبا خلال التوسع الروماني، ها هي قد انحدرت منها لغات أخرى كالإيطالية والفرنسية والرومانية والإسبانية والبرتغالية، فكانت اللاتينية لغة العلم والدراسة في أوروبا الوسطى والغربية حتى القرن السابع عشر، لتحل محلها لغات محلية أخرى.
واللغة الفرنسية القديمة ليست هي اللغة السائدة اليوم، واللغة الألمانية الحديثة تختلف عن الألمانية الأصلية، والإنجليزية التي يتحدث بها الأمريكيون تختلف عن الإنجليزية التي يتحدث بها البريطانيون وكذلك الأستراليون.
أما اللغة العربية، فهي اللغة الوحيدة من بين كل لغات البشر التي احتفظت ببنيتها الصرفية والنحوية والمعجمية، والسر في ذلك هو القرآن الكريم الذي نزل باللسان العربي، وحافظ على هذه اللغة من الاندثار.
فمهما تعددت اللكنات المحلية التي تختلف من بلد عربي إلى آخر، تظل اللغة العربية الفصحى لغة العبادة والدراسة والعلم والتصنيف.
الله عز وجل قد أنزل القرآن باللسان العربي؛ (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ {193} عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ {194} بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ) (الشعراء)، ولأن الإسلام رسالة عالمية فقد انتشرت اللغة العربية لغة القرآن في أرجاء المعمورة، فأخرجها من حيّز شبه الجزيرة العربية إلى أرجاء المعمورة.
القرآن قد وسّع ومدّ معنى العروبة لتتحول من لغة قومية إلى لغة انتماء وثقافة، فكان يُعبر عن المسلم بالعربي أحياناً، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «يا نعايا العرب، يا نعايا العرب (ثلاثا)، إن أخوف ما أخاف عليكم الرياء والشهوة الخفية»(1)، ومن المقطوع به أن خطاب النبي صلى الله عليه وسلم وتحذيره من هذه الآفات كان للمسلمين عربهم وعجمهم، وكذلك استخدمه الفاروق عمر بن الخطاب، عندما قال: «قد رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب (يعني عمرو بن العاص)، فانظروا عمّا تنفرج»(2).
أصبحت العربية لغة كل المسلمين، إذ هي لغة الأعاجم المسلمين كذلك، فهم يقرؤون القرآن بلغته التي نزل بها، وما منهم من عالم أو طالب علم إلا وكانت العربية من العلوم الأساسية التي يتعلمها حتى يتمكن من تعلم العلوم اللازمة لفهم الكتاب والسُّنة كالتفسير والفقه والحديث وغيرها، حتى صنف كثير من المسلمين الأعاجم العديد من الكتب باللغة العربية.
ولأن القرآن باق إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فعلى ذلك اكتسبت اللغة العربية التي نزل بها صفة الخلود، لأنه مادة حياتها وبقائها.
وحتى ندرك مزيدًا من تأثير القرآن على العربية وحفاظه عليها، نشير إلى كتب الغرب القديمة، يحتاج الإنسان الغربي للقراءة فيها إلى قاموس للترجمة، لانسحاب اللغات الحالية من اللاتينية التي كانت تتحدث بها معظم أوروبا، بينما تجد العربي في كل عصر، يقرأ الكتب العربية القديمة بكل يسر دون الحاجة إلى ترجمة، والفارق بين المثالين هو القرآن الذي حفظ اللغة العربية من الاندثار، وأحدث تلاحمًا بين الأجيال سابقها ولاحقها.
ومن فضل القرآن على اللغة العربية، أن نشأت في رحاب الإسلام علوم كثيرة بهدف حماية المسلمين من اللحن في القرآن ولغته، كعلوم النحو والصرف التي هي إسلامية النشأة، كما نشأت علوم عربية أخرى كعلم المعاني والبيان والبديع، التي وسعت في أساليب اللغة العربية وتراكيبها، وأصبحت تلك العلوم التي تحفظ اللغة منتشرة في شتى بلاد المسلمين، وأمر أساس لسلوك طريق العلم بالإسلام للمسلمين العرب والأعاجم.
لقد أفاد القرآن الكريم كل مهتم باللغة والفصاحة والبيان، فاقتبس الكُتَّاب والأدباء منه في مقولاتهم، وبذلك أثرى القرآن اللغة العربية في هذا الجانب، كما أن القرآن بكل تعاليمه ومواعظه وحكمه وأحكامه وبيانه، قد صبغ نتاج الأدباء والكتاب والشعراء، إذ تضمنت كتاباتهم وأشعارهم حشداً هائلاً من الحديث عن الزهد والجهاد وحقيقة الحياة والموت ونحو ذلك مما اتضحت معالمه في القرآن الكريم.
ونظراً لهذا الارتباط الوثيق بين القرآن واللغة العربية، لم يفتر المتآمرون على الإسلام عن السعي من أجل تبديد معالم اللغة العربية لغة القرآن، بهدف هدم القرآن في النفوس، حيث يسعون لضرب القرآن عن طريق ضرب العربية الفصحى.
ولا تخفى محاولاتهم المستمرة لاستبدال العامية باللغة العربية الفصحى، وفي بعض البلدان الإسلامية استبدلوا اللاتينية بالعربية، كما أن هناك محاولات لتعميم لغة وسطى تجمع بين الفصحى والعامية، كما يجري العمل على قدم وساق للتحلل من أصول وقواعد اللغة العربية التي صانتها.
_________________________
(1) رواه البيهقي في الزهد (316).
(2) تاريخ الطبري (4/ 431).