«وذكرهم بأيام الله»؛ ذلك أن هذا التذكير تذكرة وعبرة، وفكرة وخبرة، وهو أهل الذكر والاختصاص، وذكر الأمة في العالمين؛ ومن هنا، فإن الأمر يتعلق بالأمة، وأنها من أهل هذه الأيام المباركة، ومن ثم فإنني أوجه الحديث بشأن «تسكين الحدث في منظومة التغيير»، كان د. حامد ربيع يقول: إن التاريخ معمل تجارب؛ ومن ثم فإن الخبرات التاريخية والمكانية يمكن الاستفادة بها وصناعة مشاتل الإصلاح منها.
ما حدث في سورية ليس وليد هذه اللحظة، ولكن كانت هناك معامل ومشاتل إصلاح في إدلب وفي حلب، ولعل هذه المعامل والمشاتل (المناطق المحررة)؛ تشكل تكأة وبداية لإصلاح واسع وكبير ليس فقط في سورية، ولكن على مدار الأمة طولاً وعرضاً، رغم أنف الدولة القُطرية والقومية التي تحولت فيها الحدود إلى قيود للأمة وحركتها وفاعليتها، وتحول من قادتها ومالكيها إلى وظيفة رديئة وأدوار خطيرة تقع في مساحات الضرر وتمتنع على ساحات النفع والثمر.
وهنا أوجه النظر إلى مسألة مهمة؛ متى يمكننا أن تنتظم تلك الصفحات من أيام الله وأحداثها الفارقة والكاشفة في كتاب النفير الإستراتيجي القادم؟ نعبر من حال إلى حال ضمن سنن التغيير؛ يجب توظيف الفرحة باعتبارها تعبيراً عن الأمل الفسيح وفقاً لما قاله الماوردي: لا تصلح الدنيا إلا بست اختتمها بالأمل الفسيح؛ لعل انفساح الأمل يأتي في نقطة ومكان وزمان ما، ولكن علينا أن نجعله فسيحاً واسعاً كبيراً فاعلاً مؤثراً واقعاً ورافعاً.
ما حدث بسورية ليس وليد هذه اللحظة ولكن كانت هناك معامل ومشاتل إصلاح في إدلب وحلب
هناك مقدمات أساسية لرؤية الحدث داخلياً وخارجياً؛ أن الطغيان والاحتلال ملة واحدة؛ العدوان كان في «طوفان الأقصى» (العدو المحتل الغاصب)؛ ومن ثم الطغيان والاستبداد هو من العدوان والعكس صحيح.
وقد نشأ مفهوم المرحلة الانتقالية في علم النفس، وارتبط بالمرحلة ما بين الطفولة والرشد والنضج، التي تسمى مرحلة المراهقة؛ فمرحلة المراهقة تسمى مرحلة انتقالية لأنها تنتقل من مرحلة الطفولة إلى مرحلة الرشد والنضج، أيضا أُطلق مفهوم المرحلة الانتقالية داخل الأدبيات الاقتصادية، عند الحديث عن مراحل النمو وفيها مرحلة انتقالية بين مراحل النمو، وكان لهذا المفهوم نصيب في الأدبيات السوسيولوجية –خاصة الغربية منها- وكان يسمى «المجتمع الانتقالي» الذي يعبر عن الانتقال من الحال التقليدية أو التخلف إلى حال الحداثة.
التحول الديمقراطي
كما يوجد في علم التنمية السياسية وعلم النظم السياسية ما يسمى «التحول الديمقراطي»؛ حيث يتم الحديث عن أن عملية التحول الديمقراطي ترتبط بعملية الانتقال، إذن نحن أمام أدبيات كثيرة، وأمام مفهوم رحالة ينتقل من علم إلى علم، ويأخذ المفهوم في علم السياسة شكلين؛ الأول: الشكل الاعتيادي المتعلق بالمراحل الانتقالية في شكل انتخابات وتحول سياسي، والثاني: فيما بعد الثورات.
وفي هذا المقام، علينا التعرف على السياقات لنقف على طبيعة المرحلة الانتقالية ومراحلها ومقاصدها؛ خاصة وأن إدارة الانتقال وضرورات الوعي بها بعد معركة التحرير الأولى التي تمثلت في إسقاط الطاغية عمل كبير متصل للقضاء على نظام ومنظومة الطاغية بما خلف من تحديات وأورث البلاد من أزمات وورط المواطنين في بلاءات؛ ما يؤكد ضرورة وضع إستراتيجية لإدارة المراحل الانتقالية يكون فيها البناء على الموجود وخطته، وإيجاد المفقود وعمليات تأسيسه وبنائه، بلوغاً للمنشود وهو الأهداف القريبة والمتوسطة، وسعياً للمقصود في سياقاته الكلية والأساسية؛ من مثل تحدي الابتداء، وتحدي البقاء، وتحدي البناء، وتحدي الأداء، وتحدي النماء، وتحدي النهوض والارتقاء، وتحدي الانتهاء وحركة الفاعلية في الإنجاز والتأثير.
لا بد من امتلاك أدوات التغيير وعلى رأسها «عقل إستراتيجي شوريّ» في إدارة التغيير وتدبير شؤونه
ومن هنا لا بد من امتلاك أدوات التغيير وعلى رأسها «عقل إستراتيجي شوري» في إدارة التغيير وتدبير شؤونه، خاصة وأن عملية الانتقال ليست أمراً واحداً، ولكن هناك الانتقال السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، والأمني، والعسكري، والمجتمعي والاجتماعي والتفاوضي والدستوري لصياغة اتفاق الحد الأدنى وبناء العقد الاجتماعي الجديد، ومؤسسياً يشمل الأجهزة القضائية والأمنية ومؤسسات أخرى يجب أن نضعها على لائحة التغيير.
ومن ثم، في إطار مدارسة علم الانتقال وإدارة مراحله من المهم ترك مفهوم اللقطة في اللحظة إلى المستهدف حقيقية؛ خطاباً وعملاً وحركة؛ والحرص على تعريف مراحل الانتقال بأنها إدارة استثناء التي لها طبيعة مختلفة تماماً عن مراحل الاستقرار، والفترة الانتقالية يمكن أن تستمر 5 سنوات أو أكثر قليلاً.
تحتاج إدارة المرحلة الانتقالية التفرقة بين التدافع والاندفاع؛ قد يكون الخلط بينهما مدخلاً من مداخل فقدان الفرصة، لماذا؟ لأن المطلوب الأول هو رسم خرائط للواقع السوري، وكذلك الواقع الإقليمي والدولي، لأننا من الضروري أن نحيط بالسياقات في تداخلاتها وتقاطعها، والتفاعلات المرتبطة بها، إلا أن التحدي الأساسي أن هذا الواقع يجب رفعه بشكل عاجل وسريع، وأن ترسم هذه الخرائط في أيام قليلة للحاجة الماسة لها، على أن تعتمد هذه الخرائط على معلومات دقيقة وكافية، بما يسمح لمتخذ القرار أن يعرف الأرض التي يتحرك فيها بصورة حقيقية ودقيقة.
الذي لا يقل أهمية عن رسم الخرائط وترتيب أولوياتها سواء بين الخرائط أو داخل الخريطة الواحدة هو تجنب الوصفات الغربية في مراحل الانتقال، فمن المهم أن تبتعد الثورة السورية عن هذه الوصفة من مثل الانتخابات والدستور، فالتمثيل السياسي لا يشترط أن يكون في الانتخابات فقط، وإنما يمكن إدارة ذلك بطرق وأساليب مختلفة، ومن الممكن التعامل معها بالمناهج العلمية المتعارف عليها، خاصة بعد رسم الخرائط الواقعية بأنواعها المختلفة.
هناك ثلاث ثورات تولد مع الأعمال الاحتجاجية المشكلة للفعل الثوري؛ الأولى: الثورة الهادفة إلى التغيير، الثانية: استثارة المضادين للثورة، الثالثة: ثورة التوقعات، ما من تغيير أو ثورة إلا ما كان له وعد، ومن الأهمية بمكان أن يكون وعدنا واضحاً للناس بيناً لا تستغرقه صورة وردية ولا تئده أحوال اقتصادية؛ ولا يقع في براثن النسيان فيصير نسياً منسياً.
صناعة الوعي
إن التوازن في الفعل الثوري بين المداخل الثلاثة والأفعال تتعلق بالثورات يشكل أمراً ضرورياً في مهمات الثورات في المراحل الانتقالية، ومن هنا يأتي التعويل على صناعة الوعي؛ تلك الصناعة الثقيلة الهادفة إلى تكوين ثقافة جديدة والوعي الجمعي، وما يحتاجه ذلك إلى مؤسسات حقيقية تقوم بمثل هذه الأدوار من نشر أفكار التغيير ومنظوماته واستثمار واغتنام هذه الأحداث، لا بد أن يكون ذلك فرصة يجب ألا نهدرها أو نفوتها أو نقتلها بالغفلة أو بالاندفاع لا التدافع الموزون والمأمون، ومن شأن التدافع الراهن أن نتلمس في النموذج السوري بعض الأمور التي قد تشكل قيمة مضافة في هذا المقام.
الاستقطاب يقتل التغيير ويشكل مع انفلاته وعدم القدرة على تنظيمه وإدارته مقبرة الثورات
لبناء هذا النموذج السوري نحتاج أن نحدد النموذج المعرفي الذي يمثل مرجعيتنا، خاصة أن كل مكون يقدم رؤية وعي وصناعة سعي؛ وتدبر السياقات والتداخلات مهما اتسعت دولية كانت أم إقليمية؛ محلية كانت أم داخلية، يكون من خلال رسم خرائط؛ القوة والفاعلية، الإمكانات والمكنات، أدوات صناعة المكانة وفعل التمكين، وبناء الإستراتيجيات والأدوات حول السعي المضمون والوعي المأمون، إستراتيجية الخطاب المرغوب، والعقل الجمعي الإستراتيجي الموهوب، والتحرير المطلوب، والمعاش الموعود للناس والجمهور.
كل ذلك في سياقاته الشاملة والتأمين والتحصين لكيان الثورة وأهلها واستمراريتها؛ في مواجهة لصوص التغيير؛ تلك التي تعتبر أخطر فئة يمكن أن يقابلها الثوار، والحاضنة الشعبية التي يجب الحفاظ عليها واستثمارها.
إن سياسات الاستبداد والطغيان قد أثرت بصورة أقسى ما تكون على جيش الضعفاء في سورية والأمة؛ والضعيف أمير الركب وجب ألا يُنسى، والتغيير في كمالاته يجب أن يكون بمقداره وبشموله من الناس وبالناس وللناس؛ الاستقطاب يقتل التغيير، ويشكل مع انفلاته وعدم القدرة على تنظيمه وإدارته يكون مقبرة الثورات.