يمثل نجاح الثورة السورية في إسقاط النظام الطائفي لآل الأسد، وإقرار الحرية للشعب السوري؛ بارقة أمل طال انتظارها، وفرصة تاريخية لشعوب منطقتنا لتحقيق حالة نجاح وسط ركام من الإخفاق وتاريخ من القهر والاستبداد؛ ولذا، فإن السعي لإنجاح الثورة السورية واجب الوقت لكل المخلصين لدينهم وأمتهم.
لقد كان الجرم الأكبر للنظام البائد في سورية محاولة تدمير الإنسان، وإفقاده أي طموح للتغيير، وحصاره بين جنبات يأس مطبق لا أمل فيه، وحاضر بئيس لا مستقبل له، وهو ما يخالف مراد الله تعالى من خلقه.
وعلى ذلك، فإن استرداد قيمة الإنسان ومكانته أول واجبات الثورة حين تريد ترميم التخريب الحضاري الهائل الذي أراده نظام الأسد وداعموه من قوى الاستعمار والظلم، وأول ذلك أن يستعيد وعيه بحقائق العقيدة وشمولها، بعدما شن النظام الطائفي غاراته عليه، سواء بتجهيل قطاعات واسعة من الشعب بعقيدته، وتوهين رابطته في النفوس، وتشويه جلال هذا الدين وآفاقه الرحيبة، وأطره الحضارية والإنسانية الرفيعة.
نجاح الثورة السورية وإقرار الحرية بارقة أمل طال انتظارها وفرصة تاريخية لشعوب منطقتنا
لقد آن لمساجد سورية الحبيبة أن تصدح بنداء الحق، وتكتظ بالركع السجود، وتتحلق بها حلق الذكر والتلاوة، وتمتلئ بالعلم وأربابه وطلابه، ومن المساجد تنطلق الصحوة المأمولة، ترتادها الأيدي المتوضئة التي تبني الوطن، وتميط الأذى الذي لحق وجهه العزيز.
لقد قامت بلاد الشام على مدى قرون الإسلام بتقديم قامات سامقة من العلماء الربانيين الذين أثروا مكتبات العالم الإسلامي بفكرهم، وتربى على أياديهم أجيال من الوارثين الحق والمجاهدين في سبيله، وآن لهذه البلاد المباركة أن تستعيد دورها الريادي بعد عقود مظلمة سيطرت فيها الطائفية على المدارس والجامعات، من حيث مناهج التعليم، وإدارته، وأنظمة التعليم والتحكم فيها.
حيث كان حزب البعث هو الوحيد القادر على الدعاية السياسية داخل الجامعات، وكان أكثر من نصف المعلمين ومديري المدارس وأساتذة الجامعات من العلويين، ومنهم وحدهم كان نحو 95% من مبعوثي الدولة للدراسة في الخارج، وتعرض غيرهم من أساتذة الجامعات للتضييق الشديد ليكونوا عوناً للظالمين على ظلمهم، وعيوناً لهم على زملائهم، في أجواء التجسس الخانق، وراحت التقارير الأمنية تتعقب كل من يشتم منه رائحة التدين والصلاح، لتتلقفه سجون الطغاة.
استرداد قيمة الإنسان ومكانته أول واجبات الثورة حين تريد ترميم التخريب الحضاري الهائل
القصاص العادل
إن ما شاهده العالم من مآسٍ تكشفت عنها سجون الأسد ستبقى صفحات عار لا يقلل من آثارها غير محاسبة المجرمين والقصاص منهم، قصاصاً يقيم العدل، لا التشفي والانتقام، ولا يحيد لتدمير ما بقي من إمكانات التعايش والمواطنة، إن هذا الهول الذي لا يكاد يصدقه عقل يمثل إدانة بالغة للعالم الذي شهد وعلم، فصمت عن مأساة أمة، بل قدم الدعم للطغاة، على ظن منهم أن ذلك يؤخر صحوة الإسلام في بلاد الشام والمنطقة، تلك الصحوة التي منها يحذرون، وقد قال تعالى: (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ {5} وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ) (القصص).
وآن أن نقدم للدنيا الإسلام؛ دعوة هداية ورشاد، ودين رحمة وعدالة، غير أنه لا يرتضي الظلم لأحد، ولا يقبل الضيم من أحد، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: «يعجبني الرجل إذا سيم خطة ضيم أن يقول: «لا» بملء فيه»، وقد قال الله تعالى: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) آل عمران: 139).
إن التبعات الملقاة على عاتق الثورة اليوم عظيمة، إذ يجب عليها الحفاظ على سيادة الوطن في مواجهة خطر التقسيم، ومخطط برنارد لويس، فقد بذل حكم عائلة الأسد الوسع في محاولته إذلال العباد، وأرَّث بينهم الأحقاد والثارات؛ ما يحتاج جهداً كبيراً لإصلاح المجتمع الثائر الجريح.
وعلى الثورة استكمال تحرير الوطن، وفق أولويات واضحة، فقد هانت البلاد على حكم الأسد، فأوسع فيها لأعداء الأمة ليقيموا القواعد العسكرية، وليجعلوها مراحاً للفصائل الطائفية والمليشيات العنصرية، بينما نكس الرأس أمام العدو الصهيوني، فلم يطلق رصاصة واحدة لتحرير الجولان، ولا لنصرة القضية منذ 50 عاماً، ولم يحرك ساكناً لرد عدوان العدو الذي عاث في بلاده، ينتهك سماءها وأرضها، في حين أطلق جيوشه وقاذفاته تدك مظاهرات شعبه، وتقصف بالطائرات والبراميل المتفجرة مدنه وقراه، وحاضرته وباديته.
التبعات الملقاة على عاتق الثورة عظيمة فعليها الحفاظ على سيادة الوطن في مواجهة التقسيم
ترميم الحضارة
أما الحضارة المادية المهيضة في سورية، فإن إصلاح ما أصابها من ضرر يحتاج تكاتف أبنائها وحكمائها، فإن النظام البائد في سعاره وأحقاده لم يقم وزناً لحضارة بلده العريق، التي تعد متحفاً مفتوحاً لحضارات متعاقبة على مر العصور، ولم يكن في حروبه ضد معارضيه يقدر المسؤولية عن هذا الإرث الحضاري العظيم، فشمل قصفه مدناً، ودمر آثاراً، وتؤكد إيما كونليف، مؤلفة كتاب «حول تأثير الحرب على الآثار في سورية»، أن جميع المواقع الأثرية في البلاد دون استثناء قد تضررت، وأن ما تمكنت من تسجيله عن الدمار ملأ 200 صفحة!
وفي مدينة حمص وحدها، تعرضت قلعة «الحصن»، التي تعود إلى عصر الحروب الصليبية، إلى القصف بالمدفعية والطيران، وصرح المبعوث الأممي إلى سورية السابق الأخضر الإبراهيمي، في تقرير منشور له، بأن جوامع وكنائس وأسواقاً قديمة ومهمة في حمص قد تحولت إلى أطلال، وأصاب الدمار مسجد «خالد بن الوليد» الذي يضم قبر القائد العظيم، وتعرضت كاتدرائية «أم الزنار» التي تعود إلى فجر المسيحية في عام 59م إلى تدمير كبير، وفي عام 2012م، دمّر هجوم للنظام السوري قلعة «تلبيسة» شمال حمص.
سورية اليوم في حاجة إلى تعاضد أبنائها ورفع الحصار عنها وقيام المؤسسات الدولية بواجبها
وإذا كان هذا بعض ما حدث في حمص، فقد وقع مثله في حلب، التي تعرض فيها «الجامع الأموي» لأضرار بالغة، وأصبح الآن ممتلئاً بالركام، ودُمرت مئذنته التي تعود إلى القرن الـ11 الميلادي، وكذا «قلعة حلب» التاريخية التي تعاقبت على بنائها حضارات قديمة منذ الإغريق والبيزنطيين حتى المماليك والأيوبيين، أما «سوق حلب القديمة»، التي تمثل إحدى أقدم الأسواق في العالم، فقد أصبحت اليوم مدمرة بالكامل، ناهيك عما حدث من تدمير لآثار مدينة تدمر التي تعود إلى أكثر من ألفي عام.
وفي كل ذلك كان التنقيب على الآثار والمتاجرة فيها يجري على قدم وساق، يقوم بها المغامرون وكبار المسؤولين في بلد انهار فيه النظام والقيم، إذ تقول بعض التقارير: إن التجارة في الآثار قد تجاوزت ملياري دولار، وتؤكد منظمة «يونسكو» أن بعض المواقع الأثرية نهبت بالكامل، وتصف عمليات التنقيب هذه بالأمر الخطير والمدمر للغاية.
إن سورية اليوم في حاجة إلى تعاضد أبنائها، ورفع الحصار عنها، وقيام المؤسسات الدولية بواجبها تجاه شعب عظيم، أهملته طويلاً، بل أسهمت في صنع مأساته.