المتلمس لحقائق الشرائع التي جاء بها الإسلام العظيم يقف على معان جليلة متجاوزة لحُسن ظواهرها، ومن ذلك ما يجده في عبادة الصدقة، تلك العبادة الممتلئة جمالًا البالغة سموًا إلى الغاية، وهذه كلمات قليلة في حقيقتها وأحكامها وفضائلها وآدابها.
تعريف الصدقة وحقيقتها
الصدقة لغةً: مشتقة من الصدق، واصطلاحًا: هي ما يُبذل للغير من مال أو طعام أو لباس؛ على وجه التقرّب إلى الله وليس على سبيل المكرُمة.
وحقيقتها برهان من العبد على صدق إيمانه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والصَّدَقَةُ بُرْهانٌ» (صحيح مسلم، 223).
وإن للصدقة معنى خاصًا؛ وهو الاصطلاحي سالف الذكر، ومعنى عامًا؛ وهو اللغوي، فهي كل طاعة في أي من أبواب الخير المشروعة؛ فإن الطاعة -كل الطاعة- برهان على صدق الإيمان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَوَليسَ قدْ جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ ما تَصَّدَّقُونَ؟ إنَّ بكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةً، وَأَمْرٌ بالمَعروفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عن مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ، وفي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ» (صحيح مسلم، 1006)، وقال صلى الله عليه وسلم: «تَعْدِلُ بيْنَ الاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وتُعِينُ الرَّجُلَ في دابَّتِهِ فَتَحْمِلُهُ عليها، أوْ تَرْفَعُ له عليها مَتاعَهُ صَدَقَةٌ، قالَ: والْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وكُلُّ خُطْوَةٍ تَمْشِيها إلى الصَّلاةِ صَدَقَةٌ، وتُمِيطُ الأذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ» (صحيح مسلم، 1009).
حكم الصدقة
وإن من الصدقة ما هو واجب، قال الله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) (التوبة: 103)، وهي الزكاة، ومعلوم عظم هذه العبادة؛ حتى قرنها الله تعالى بالتوحيد والصلاة في غير ما موضع من كتابه، منها قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة: 227)، ولا شك بأنها الأحب إلى الله، فإنه تعالى قال في الحديث القدسي: «وما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بشَيءٍ أحَبَّ إلَيَّ ممَّا افْتَرَضْتُ عليه» (صحيح البخاري، 6502).
ومنها صدقة التطوع، وقد ورد فيها كثير فضائل، ورُتِّب عليها عظيم الثواب.
فضائل الصدقة وثوابها
وإن ثواب الصدقة عظيم بيَّنه كتاب الله، فإن الله يُربيها؛ أي يزيدها، قال تعالى: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) (البقرة: 276)، وينميها، قال تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة: 261)، وأجر المتصدق على الله وكفى بالله حسيبًا، قال تعالى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة: 274).
وإنه ليعجز المرء عن الإحاطة بجميع ما ورد من تعيين فضائل الصدقة وعظيم ثوابها في مصنف لا مقال مختصر، وذلك لكثرة ما ورد فيها، فمن ذلك أنها سبب لدخول الجنة (صحيح مسلم، 2630)، والنجاة من حر يوم القيامة (صحيح البخاري، 6539، ومسلم 1016)، وأنها سبب البركة في الرزق وخُلف الخير (صحيح مسلم، 1010 و2588)، وأنها تكفر الذنوب (صحيح البخاري 3586، ومسلم 144)، وأنها إن كانت في السر تُطفئ غضب الرب (صحيح الجامع، 3766) وغير ذلك كثير.
الصدقة الباقية والجارية
وإن بقاء ثواب الطاعات ليوم المعاد معلوم، فإن الله تعالى يثيب يوم القيامة على أعمال الخير عامة، وأما الصدقة فإن منها ما يبقى في الحياة حتى ليزيد بعد موت صاحبها قبل أن يوافي بها ربه، يدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عنْه عَمَلُهُ إِلَّا مِن ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِن صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو له» (صحيح مسلم، 1631)، ومن جميل ما في هذا الحديث أن الصدقة الجارية معلوم بقاؤها بخلاف ما قد يخفى في العلم النافع ودعاء الولد الصالح، ولكن المتأمل يجد أن سعة معنى الصدقة يشمل بذل العلم والدعاء، فإن بقيا -كتعليم العلم للمسلمين والتصنيف فيه، أو حياة الولد واستمرار دعائه لوالده- كانا كذلك من الصدقة الجارية، فالتحقيق أن ثلاثتهم صدقة، ولكن الأولى ذُكر فيها اللفظ صراحةً على اعتبار المعنى الخاص وهو بذل المال ونحوه.
آداب الصدقة
وعلى ما سبق ذكره من أن الصدقة دليل على صدق الإيمان؛ فإن ما يُبطلها هو ما يخرم هذا الإيمان، فإن راءى العبدُ الناسَ والتفت عن ثواب الله تعالى بطلت صدقته، وجماع ذلك في معنيين، المنَّ والأذى.
والمنّ: هو كالذي يقول: فعلتُ بك، وأعطيتُك، وأحسنتُ إليك، والأذى عام فيه أنواع: فمنه ما يكون بالكلام السَّيئ، أو الفعل السيئ.
وقد شرط الله تعالى في قبول الصدقات أن ينتفي عنها المن والأذى، قال الله تعالى: (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ {262} قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ) (البقرة)، ومثَّل على بطلان الصدقة بالمن والأذى بمثل عظيم وهو زوال التراب عن الصخرة الملساء بعد نزول المطر، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) (البقرة: 264).
ولأن الصدقة دليل الإيمان؛ فإن هذين المعنيين -المن والأذى- قد يتحققان بقدر كامل يبطل معه الإيمان بالكلية، ودليل ذلك ختم الآية الكريمة بقوله تعالى: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)، وقد يتحققان بقدر أقل من الكمال وهو يسير الرياء، فتبطل الصدقة ويزول ثوابها ولا يزول مع ذلك الإيمان بالكلية وإن كان مستحقًا العقوبة، ودليله ما جاء في حديث ذَكَر أول من تُسعَّر بهم النار، فمنهم «وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ، وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ. قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ: هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ» (صحيح مسلم، 1905).