أستاذي الفاضل د. يحيى، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أنا زوجة منذ حوالي 5 سنوات لزوج فاضل كريم؛ خلقاً ومادياً، زوج وأب يبذل كل جهده للقيام بأمانات أسرته، ولكنني تعبت، نعم تعبت، فزوجي سبب ألمي وإحباطي وشعوري بالتقصير، هو مهذب لا يتكلم، ولكنني أقرأ من عينيه كم يراني مقصّرة!
ولنعد إلى البداية، نشأت في أسرة خلقها التدين، فلم أشعر بما كانت ترويه البنات عن مراهقتهن، حتى عندما التحقت بالجامعة وفقني الله لصحبة طيبة من الزميلات الملتزمات، تخرجت وحدثني أبي عن شاب أشاد به كل من يعرفه، بالإضافة إلى أنه من أسرة طيبة مشهود لها بالسمعة الطيبة.
تمت الخطبة، وقد بهرني بذكائه وخُلقه وكرمه وأناقته ووجهه السمح، مع خفة ظله، بالإضافة إلى خبراته الحياتية المتعددة؛ حيث يدير بكفاءة شركة والده، وحيث إنني لم أمعن النظر في حياتي لوجه شاب؛ فأحببته حباً جماً، كنت أبذل وأبدع، بل وأبالغ في الحفاوة به عند زيارتنا، رغم سعادة أمي به فإنها لفتت نظري الاعتدال، فكنت أمازحها قائلة: «هي الغيرة بدأت؟!»، المهم أن أمي لاحظت أن خطيبي يقابل مبالغتي في العناية به بمزيد من الكرم وحُسن الخلق، فلم تعد تعقب.
تزوجنا ولم أحمل إلا بعد عام، فكان زوجي هو طفلي المدلل، نعم فقد قالت أمي: «ماذا أبقيت لطفلك من تدليل؟!»، كنت سعيدة بأن أتولى كل ما يحتاجه من شراء ملابسه وعطره ورعايته بالمنزل من طعام وشراب بيدي.. كان يقابل ذلك بمزيد من الرعاية والاهتمام بي، حتى إذا حدث خلاف كنت أنا دائماً السباقة لمصالحته، وهو كثيراً ما كان يعتذر عن خطئه.
يجب أن نفرِّق بين «الواجب» و«الفضل».. كما أن استمرار الفضل لا يحوله إلى حق مكتسب
الحمد لله حملت بعد عام، ورغم ما واجهت من صعوبات، فإنني أخفيت عليه ذلك، واستمرت عنايتي به تقريباً دون أن أشعره بأي نقص، ولكن بعد طفلي الأول اضطررت أن أقصّر معه بعض الشيء والذي هو، كما علمت من صديقاتي، فوق ما يمكن أن يحلم به أي زوج من زوجة متفرغة فقط لزوجها، لم يعاتبني زوجي كعادته، ولكن أقرأ في عينيه إحساسه بتقصيري تجاهه! ولكن ماذا أفعل، وأن أبذل قصارى جهدي؟ فمثلاً لم أعد أستطيع أن أعد له ما يلبسه عند خروجه أو أستقبله بعد عودته، أساعده في خلع ثيابه ووضعها في دولاب ملابسه، أو أضع له كوب الشاي بجانبه وهو يتابع التلفاز مثلما كنت أعمل قبل الحمل.
رزقنا الله بالطفل الثاني، وازدادت مسؤولياتي تجاه طِفْلينا، ومع كل حرصي على رعاية زوجي، فإنني أعترف أنني لم أعد أعطيه من رعاية ما كنت أبذله من قبل، وازدادت نظرة التقصير في عينيه.
أكتب إليك لأنني أشعر أن الفجوة بيننا بدأت تتسع، والمشكلة أننا لا نتصارح، فهو لم يوجّه لي أي اتهام بالتقصير، رغم كل الرسائل التي تفصح عن شعور لي بالتقصير، كما لم أعلمه أنني لم أعد أستطيع أن أعطيه مثل ما كنت؛ لأنني أصبحت أيضاً أمّاً لطفلين، ولستُ زوجة فقط.
زوجي من قرَّاء مجلتكم الموقرة، فهل وجهتَ له كلمة، وجزاكم الله خيراً.
التحليل
من طبيعة النفس البشرية التفرقة بين التصرفات غير المعتادة وغيرها من التصرفات المعتادة التي قد ترتبط بزمان أو بمكان أو بأفراد، سأركز حديثي هنا على العلاقات الزوجية، إلا أن ما أتناوله ينطبق على كل العلاقات الإنسانية.
في بداية التعارف في فترة الخطبة، يتلمس كل طرف سمات شخصية شريك حياته المرتقب، وتبدأ الصورة الذهنية تتشكل عنه من خلال كل أدوات التواصل سواء السمعية أو البصرية، وتزداد الصورة وضوحاً وعمقاً بنمو وتطور العلاقات بين الشريكين من الخطبة إلى عقد القران إلى البناء، وتستمر ما دامت الحياة الزوجية قائمة بينهما.
تؤدي الصورة الذهنية عن الزوج الأثر الأكبر في تقييم زوجه لتصرفاته، حيث إن النموذج الذي شكله الزوج عن نفسه لدى زوجه من خلال كل علاقاته معه أصبح راسخاً في ذهن زوجه عنه، كما أنه يصبح المعيار الذي يتوقع من خلاله كيف سيتصرف زوجه، ومن ثم يحكم به على تصرفاته.
نحن مسؤولون في المقام الأول عن صورتنا الذهنية التي نصيغها لدى الآخرين، طبعاً هناك عناصر أخرى تؤثر في تشكيل هذا التصور، منها طبيعة شخصية المتلقي وتجاربه وتوقعاته، لكن أؤكد مسؤوليتنا نحن عن هذا التصور؛ لذا دائماً ما أكرر أنه يجب أن نتصرف في فترة الخطبة وفي الفترة الأولى من زواجنا على أن نكون طبيعيين بعيدين عن أي مبالغات، طبعاً لا حرج أن نظهر قدراً ما من الكرم أو الاهتمام في مناسبة ما، لكن دون ديمومة ما دام ذلك فوق طاقتنا.
من رعاية الزوج لزوجه أن يستشعر قدراته ويتلمس أوجه القصور لديه فيبادر بمساعدته
إن النفس تألف وتتعود مع الاستمرار، وما كان مجاملة يصبح حقاً مكتسباً؛ لذا يجب التفريق بين الفرض وهو حق للآخر ويتوقعه مني ويطالب به إذا ما قصرت، وما هو فضل أفعله عن طيب نفس دون توقع أو طلب من الطرف الآخر.
إن أدائي للفضل بصورة مستمرة يُشعر الآخر أنه حقه حتى لو كان في بداية الأمر يعلم أنه فضل، لكن الاستمرار يجعله يتعود عليه، وكما يقال: «الإنسان أسير عاداته»، ويعتبره حقاً له ويطالب به، ويعتبر الآخر مقصراً إن لم يؤده، كما أنه على الجانب الآخر، فإن أداءنا للفضل بصفة مستمرة يرهقنا لأنه فوق طاقتنا، ومن الدعاء القرآني: (وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ) (البقرة: 286)، كما أنه يُحدث خللاً في العلاقات.
إلى كاتبة الرسالة..
أنت المسؤولة أولاً عن معاناتك، ففي البداية بالغتِ في عطائك دون أن تُشعري زوجك منذ فترة الخطبة بالفرق بين ما هو فضل وما هو واجب، باستمرارية الفضل أصبح فرضاً عليكِ وتعوَّد عليه، الخطأ الثاني أنه كان عليك بعد حملك وعدم تقدير زوجك لتغير قدراتك على العطاء من أن تواجهيه، وألا يتوقع منك نفس معدل العطاء له، وهذا ليس تقصيراً منك أو عدم اهتمام، ولكن نظراً لاستحداث أعباء جديدة عليك بالأمومة، وأن عليه أن يراعي ذلك، من الطيب أن نحسن الظن بالطرف الآخر، ونتوقع أن يكون لديهم الذكاء الوجداني في تقدير قدراتنا، ولكن إن لم يكن فعلينا المبادرة بإيضاح ذلك لهم.
كلمتي إلى الزوج..
لقد حثنا المولى عز وجل على العفو عن حقوقنا لدى الآخرين، بل والإحسان لمن قصّر عن أداء حقنا عليه؛ (الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران: 134)، فكيف بنا نعاقب من لم يقدّم الفضل؟! كما أن من رعاية الزوج لزوجه أن يستشعر قدراته ويتلمس أوجه القصور لديه فيبادر بمساعدته أو إعفائه من واجباته عليه حتى لا يوقعه في حرج الاعتذار أو القيام بجهد فوق طاقته.
من نِعَم الله أن يمن عليَّ بزوج معطاء كريم، ولكن يجب أن نفرق بين ما هو واجب عليه وما هو فضل منه، كما أن استمرار الفضل لا يحوله إلى حق مكتسب لي أطالبه به وأشعره بتقصيره إن لم يفعله، لأن هذا يُحدث خللاً في العلاقة ويحمله فوق طاقته.