من قرأ رواية «البؤساء» التي تعد واحدة من أعظم الروايات التاريخية دقة في الوصف، وكتبها الروائي الفرنسي فيكتور هوغو، تدور أحداثها في فرنسا خلال القرن التاسع عشر، وتتناول قضايا اجتماعية عميقة مثل الفقر، والعدالة، والرحمة، والإيمان.
تدور أحداثها حول جان فالجان، وهو رجل فرنسي حكم عليه بالسجن لسرقة «رغيف خبز» لإطعام عائلته الجائعة، وبعد خروجه من السجن يجد صعوبة في الاندماج بالمجتمع بسبب وصمة العار التي تلاحقه، يمر بعدة تجارب صعبة، ويتعرض للاضطهاد والظلم!
وترجع أهمية تلك الرواية (والعمل الفني الذي جسدها) أنها أقرب صورة واقعية للمشهد قبل الثورة الفرنسية بتسليطها الضوء على الحياة الاجتماعية والاقتصادية ومشكلة العدالة الغائبة، وبالرغم من احتمالية المبالغة في النص الأدبي، فإن تاريخ أوروبا المدون في مراجع تاريخية كبرى مثل «قصة الحضارة» للمؤرخ ول ديورانت(1) تؤكد أن فساد الحياة في أوروبا العصور الوسطى أكبر بكثير مما صورته مأساة «البؤساء»، وأن الأكثرية في أوروبا في ذلك الوقت كانت تملك حقوقاً أقل من حقوق الحيوانات.
طبيعة السجون وأنواع العقاب في العصور الوسطى(2)
اتخذت السجون في العصور الوسطى نفس شكل السجون القديمة، فكانت تختلف اختلافاً كلياً عما هي عليه اليوم، فلم تكن مؤسسات إصلاحية بقدر ما كانت أماكن احتجاز مؤقتة قبل تنفيذ العقوبات المغلظة، أو أماكن لحجز المدينين أو المجانين أو العبيد، كانت عبارة عن أبراج صخرية أو أقبية داخل القلاع أو الحصون أو الأديرة والكنائس، لم تكن مصممة خصيصًا للاحتجاز، وكانت الظروف فيها قاسية للغاية، كانت مظلمة ورطبة ومزدحمة، وكانت النظافة شبه معدومة.
كان السجناء يتعرضون للأمراض والأوبئة، والوجبات قليلة وغير صحية، ومن أهم مظاهر الاستهانة بحقوق الإنسان أنه لا يوجد فصل بين الجنسين أو أنواع الجرائم، لم يكن هناك فصل بين الرجال والنساء، أو الأطفال والرجال، الجميع يختلطون في نفس المكان.
ولم تكن هناك قوانين ثابتة تنظم علاقة السجان بالمسجون، وإنما الرشوة كانت لها اليد الطولى في الأمر كله، فيمكن شراء الحراس بالرشى من السجناء ومن ذويهم.
أما عن أنواع العقاب في ذاك الوقت فكانت شديدة القسوة للردع وليس للإصلاح، فلم يكن العقاب موازياً لحجم العقوبة، وقد سجل التاريخ أن عقوبة سرقة رغيف خبز قد تصل للسجن سنوات، مع الوصم بالعار والملاحقة مدى الحياة، بالرغم من قسوة الظروف الاقتصادية واضطرار الكثيرين لتحمل الجوع لأيام طويلة، فكانت العقوبات شديدة القسوة والعنف ومتنوعة كالجلد والضرب والتشويه وقطع الأطراف، وكان الإعدام عقوبة حاضرة في جرائم الخلاف في الرأي خاصة مع الكنيسة ويتم عن طريق الشنق أو الحرق أو الرجم.
وقد أدت الكنيسة الكاثوليكية دوراً كبيراً في حجم قسوة الأحكام خاصة مع المختلفين معها في حقائق علمية تم اكتشافها وتعارضت مع معتقدات الكنيسة وثوابتها، ومن أشهر القضايا في ذلك الوقت حكم الكنيسة على العالِم جاليليو(3) الذي اكتشف أن الشمس وليس الأرض هي مركز الكون، وأعلن ذلك، بينما الكنيسة كانت ترى أن الأرض هي مركز الكون.
وبالرغم من التشكيك التاريخي في رواية حرق جاليليو على يد الكنيسة، فإن الأخيرة قد اعتذرت في عام 1992م رسمياً عن الحكم الذي أصدرته ضد جاليليو، وكان نادراً ما يكون هناك حكم بالمؤبد؛ لأنه يتحول إلى الإعدام في الغالب.
ومن بين الأحكام الجائرة في مقابل جرائم بسيطة عقوبة «الاستعباد»، حيث يمكن أن يحكم على المجرم بالعمل كعبد مدى الحياة، أيضاً عقوبة النفي إلى مكان بعيد عقوبة شائعة لبعض الجرائم السياسية، ويتم تعريض المجرمين لـ«العار العام» عن طريق جلدهم في الساحات العامة.
أسباب العقاب القاسي
كانت الحياة في العصور الوسطى نفسها قاسية، والسجون والعقاب مجرد مظهر من مظاهر تلك القسوة، وذلك في ظل غياب نظام قضائي متطور، وكانت الإدانة تعتمد غالبًا على الاعتراف تحت التعذيب أو الشهادات غير الموثوقة مع تعامل الكنيسة المهيمنة على المشهد مع فارق الطبقات بين البشر بشكل طبيعي، وكأن حق الأغنياء وطبقة النبلاء أن يستعبدوا الناس لمجرد كونهم فقراء أو من غير ذوي الأملاك.
وحتى النظرة إلى العقاب كانت نظرة دينية باعتبارها مكفرات للذنوب، تعتبر الردع هدفاً رئيساً من العقوبة لردع الآخرين عن ارتكاب الجرائم، مع الاعتقاد بأن العقاب القاسي هو أفضل وسيلة لتحقيق ذلك في المجتمعات الإقطاعية.
ومن أسباب قسوة الأحكام أيضاً الاعتقاد بأن لها القدرة على إخضاع الخصوم السياسيين والمعارضين حتى لا يُقدم غيرهم على التمرد على الظلم القائم ومحاولة تغيير الوضع، كذلك لإخضاع ومعاقبة المتمردين الفلاحين الذين يرفضون أوامر الإقطاعيين، أيضاً مواجهة جرائم السرقة مهما بلغت بساطتها أو ضعفت قيمة المسروقات، مع وجود عقوبات أخرى تحت بند العقوبات الدينية التي كانت أقرب إلى الانتقام من العقاب، وكانت من أشد أنواع العقوبات وتوجه لأصحاب المعتقدات المخالفة للتعاليم المسيحية.
«محاكم التفتيش» سقطة إنسانية لن يغفرها التاريخ(4)
بدأت فكرة إنشاء «محاكم التفتيش» في القرن الثالث عشر الميلادي مع إطلاق يد الكنيسة الكاثوليكية في السيطرة على كل شيء، وأصبح العقاب على نوايا الناس وأفكارهم؛ حيث كان بابا روما يكلف الأساقفة بالقيام بدور المخبر لتقصي أفكار الناس وهمساتهم، واتهام كل مخالف بالكفر؛ ومن ثم محاسبته بالقتل أو التعذيب البشع.
وفي الأندلس، سطر التاريخ أبشع صفحات للإنسانية؛ حيث تفنن الملك فرديناند ملك أراغون، والملكة إيزابيلا ملكة قشتالة في تعذيب من لم يعلن تنصره من المسلمين أو اليهود، أو يعلن تنصره ويظهر غير ذلك من انتماء لدينه ودين آبائه.
وأصدر البابا سيكتوس الرابع، بناء على رغبة فرديناند، وإيزابيلا، قراراً، في عام 883هـ/ نوفمبر 1478م، يفوض لهما أن يعينا 6 قسس، من ملة الإجازات العليا في علوم الدين والشريعة، ليؤلفوا هيئة محكمة التفتيش؛ ليحققوا تهم الهرطقة ويعاقبوا عليها، ووضعت الهيئة برمتها بعد عام 889هـ/ 1483م تحت إمرة وكالة حكومية.
ولم تمس «محاكم التفتيش» في أول أمرها اليهود الذين لم يتنصّروا، وإنما وجهت أهوالها إلى المتنصّرين الذين يشك أنهم ارتدوا إلى اليهودية أو إلى الإسلام، وإلى المسيحيين المتهمين بالهرطقة، وشجع كل امرئ على أن يكون شاهداً، ليبلغ عن جيرانه وأصدقائه وأقاربه.
وكان البابا سيكتوس الرابع أصدر الموافقة على طلب الملكة إيزابيلا ملكة قشتالة بإنشاء «محاكم تفتيش» لتزيد من سلطانها باسم الدين النصراني، كما أصدر الملك أنريكي الرابع، ملك قشتالة، عام 863هـ/ 1459م أمراً ملكياً للأساقفة بالبحث والاستقصاء في دوائرهم عن المارقين المضمرين لأفكار مخالفة لـ«الكثلكة»(5).
وكان من أساليب التعذيب في «محاكم التفتيش» ما يسمى بـ«نادي المشاغبين»، ويتكون من حلقة كبيرة توضَع حول رقبة المذنب، وتوجد حلقات أخرى صغيرة توضع فيها أصابعه، وتسخَّن هذه الآلة بدرجة حرارة تعتمد على مزاج المُعَذِّب، فتتسبب في تسلخات جلدية عميقة تصل إلى العظام والمفاصل، وقد تؤدي في النهاية إلى الموت، والثور الحديدي وهو عبارة عن قطعة نحاسية صلبة على شكل ثور، مفتوحة من جهة واحدة يتم إدخال الضحية فيها، ثم تشعل النار تحته حتى يصبح لون الثور أصفر ويخرُج البُخار من أنفه، ومنها يستمعون إلى صوت صراخ الضحية وهو يُشوى حتى الموت.
ومنها ما هو أشد قسوة من كل هذا لتكون أكبر سقطة إنسانية تاريخية في حق المسلمين أو المخالفين للنصرانية الكاثوليكية، فهذا نوع من أنواع السجون تاريخياً في غياب شريعة الله عز وجل.
____________________
(1) ويليام جيمس ديورانت، فيلسوف، مؤرخ وكاتب أمريكي من أشهر مؤلفاته كتاب «قصة الحضارة» الذي شاركته زوجته أرئيل ديورانت في تأليفه، ولد في 5 نوفمبر 1885م، نورث آدمز، ماساتشوستس، الولايات المتحدة
(2) «قصة الحضارة» للمؤرخ ول ديورانت، بتصرف.
(3) عالِم فلكي وفيلسوف وفيزيائي إيطالي، وُلد في بيزا في إيطاليا، يوصف في بعض الأحيان بالعلّامة، نشر نظرية مركزية الشمس التي جاء بها كوبرنيكوس ودافع عنها بقوة على أسس فيزيائية، قام أولاً بإثبات خطأ نظرية أرسطو حول الحركة، سالكاً من أجل ذلك طريق الملاحظة والتجربة، ويكيبيديا، ولد في 15 فبراير 1564م.
(4) الموسوعة العربية التاريخية، بتصرف، العهد الأموي (التاريخ الإسلامي)، المقتبس من أنباء أهل الأندلس حيان بن خلف القرطبي.
(5) المصدر السابق.