جاءت حادثة مقتل عالم الآثار «الإسرائيلي» زئيف إيرلتش (71 عاماً)، بجنوب لبنان، في نوفمبر 2024م، لتسلط الضوء على قضية مهمة تعد إحدى الجرائم الصهيونية المتواصلة بحق فلسطين، والمسجد الأقصى تحديدًا.
زئيف إيرلتش، مستوطن ومؤرخ «إسرائيلي»، وُلد عام 1953م، وقُتل أثناء مرافقته قوة عسكرية في جنوب لبنان، قبل سريان وقف القتال بين الاحتلال و«حزب الله»، وقد شارك إيرلتش في تأسيس مستوطنة عوفرا في الضفة الغربية، وعُرف بكتبه التي تناولت تاريخ المناطق المحتلة وركزت على المواقع التاريخية والتراث اليهودي، ومن هنا تأتي رمزية مقتله، وما أعادت التذكير به من الجرائم الصهيونية.
وعلى مدار سنوات رافق إيرلتش جيش الاحتلال في مهمات بحثية عدة، كما ذكر موقع «الجزيرة نت»، وفي رحلته التي لم يكن يعلم أنها الأخيرة، كان إيرلتش مهتمًّا بفحص واحدة من القلاع التاريخية القريبة من مدينة صور، في منطقة عمليات تبعد عن الحدود بنحو 6 كيلومترات، لمسح قلعة قديمة بالقرب من قرية شمع.
هذه الحادثة جاءت لتذكِّر بالجرائم الصهيونية بحق الأراضي الفلسطينية والمقدسات؛ إذ لم يكفّ الاحتلال عن عمليات الحفر تحت المسجد الأقصى، للبحث عما يزعمه من وجود آثار يهودية عما يسمه «الهيكل»، أو غيره من بقايا.
تهديد للمقدسات
على مدار عشرات السنوات، لم يكفّ الكيان الصهيوني عن حفرياته تحت المسجد الأقصى، في انتهاك صارخ للحقوق والمقدسات، وفي تهديد واضح للمسجد المبارك.
الحفريات طالما حذر منها قادة فلسطينيون ومهتمون بالدفاع عن المقدسات الإسلامية والحقوق الفلسطينية، ورأوا أنها تمثل تهديدًا حقيقيًّا للمسجد وأبنيته والمناطق المجاورة له.
وأبرز هذه الشخصيات الشيخ رائد صلاح رئيس «مؤسسة الأقصى لإعمار المقدسات الإسلامية»، الذي كثيرًا ما أكد بأن القدس المحتلة تتعرض لعملية تهويد وتدمير خطيرة، داعيًا الأمة إلى إنقاذها.
وأظهر فيلم عرضته «المؤسسة»، في مؤتمر صحفي، قبل أكثر من 15 عامًا (وتحديدًا في عام 2008م)، حفريات واسعة ومتشعبة في اتجاهات متعددة وأعماق متفاوتة كلها تسير باتجاه المسجد الأقصى المبارك، إضافة إلى أنفاق في منطقة باب المطهرة فيها أكياس مملوءة بالتراب ما يدلل على استمرار عمليات الحفر.
وأظهر الفيلم اتساع مساحة وحجم الحفريات الصهيونية أسفل الحرم القدسي، لتشمل شبكات التصريف الصحي الممتدة في أجزاء واسعة منها؛ ما يتسبب في انهيارات؛ منها وقوع انهيار داخل المسجد الأقصى عند سبيل قايتباي وتشققات جديدة في بيوت المقدسيين الواقعة ضمن الجدار الغربي للحرم.
وتقديرًا لجهود الشيخ رائد صلاح المهمة في كشف هذه المخططات، فقد مُنح جائزة الملك فيصل العالمية، في خدمة الإسلام لعام 2013م، لأنه أول من كشف النقاب عن النفق الذي عمله المحتلُّون تحت «الأقصى»، بحسب ما جاء في حيثيات المنح.
البحث عن تاريخ مزعوم
يشير الباحث أحمد دلول إلى أن الصهاينة لا يعترفون بالمسجد الأقصى، وأنهم قد شكلوا عدة منظمات بهدف هدمه وإعادة بناء «الهيكل» في المكان نفسه، ولعل أهم جماعة هي من تطلق على نفسها جماعة «أمناء الهيكل»، وهي جماعة متطرفة تؤكد بجانب غيرها من الجماعات الأخرى أن مكان «الهيكل» هو نفس المكان الذي أقيم عليه المسجد الأقصى.
ويوضح أن هذه الجماعات بدأت أعمال الحفر تحت المدارس والمنازل المحيطة بالمسجد الأقصى، بدعوى البحث عن «الهيكل»، وحفرت نفقًا عميقًا تحت «الأقصى» بات يشكل تهديدًا صارخًا للحرم القدسي، خاصة أن هذه الحفريات لم تقتصر على الأنفاق، بل تضمنت بناء كنيس يهودي صغير تحت «الأقصى» تم افتتاحه عام 1986م.
ولفت إلى أن عمليات الحفر والتنقيب اليهودية أسفل «الأقصى» وأسواره المختلفة، قد مرّت بعشر مراحل، كل مرحلة أشد شراسة من سابقتها، وقد كانت المرحلة العاشرة والأخيرة أخطر تلك المراحل؛ لأن هدفها تفريغ الأتربة والصخور من أسفل المسجدين «الأقصى» و«قبة الصخرة» لتركهما قائمين على فراغ، بحيث يكونان عرضة للانهيار والسقوط.
وذكر أن حكومة الاحتلال قد افتتحت نفقين يمرّان من أسفل المسجد الأقصى، تحت مزاعم أن تلك الأنفاق كانت تستخدم لنقل المياه إلى «الهيكل»، وشارك في أعمال الحفر والتنقيب أكثر من 70 عالمًا أثريًّا، ولم يتم العثور حتى الآن إلا على آثار من العهود الإسلامية الأموية والعباسية والعثمانية (راجع المزيد في الكتاب الموسوعي: «الأقصى عقيدة»، عن مجلة «البيان»).
وتوضح الباحثة نظيمة سعد الدين أن الكيان انتهج منذ احتلاله فلسطين سياسات عدة، هدف منها إلى فرض أمر واقع يقضي بسيطرته التامة على الأراضي الفلسطينية المغتصبة، ومن هذه السياسات قيام الاحتلال بأعمال حفريات واسعة، خاصة في مدينة القدس والأماكن المقدسة بها، وذلك تحت مسميات مختلفة تتحدث عن اكتشافات أثرية أو تجديد شبكات صرف صحي وغير ذلك.
وأشارت إلى أن الحفريات حول «الأقصى» وتحته، بذريعة التفتيش عن «الهيكل» الذي تدعي «إسرائيل» وجوده بالمنطقة، ابتدأت في أواخر عام 1967م، وأنها مرت بمراحل وأدت إلى تصديع الكثير من العقارات المجاورة لـ«الأقصى»، كما أشارت إلى أن الاحتلال «الإسرائيلي» لفلسطين قد سبقته محاولات عدة للعبث بتاريخ المدينة، عن طريق علماء آثار يهود حاولوا تلفيق تاريخ في المدينة يعود إلى ملوك اليهود مستندين إلى أساطير اليهود وليس إلى الحقائق العلمية، (راجع الكتاب المهم: «القدس- معرفة في سبيل التحرير»، تحرير: عبدالقادر ياسين).
من إثبات المزاعم إلى محو الثابت!
يمكن القول، ومن خلال ملاحظة هذه المحاولات المتكررة للكيان في التنقيب والبحث: إن الكيان يحاول تثبيت أساطيره عن الصراع الذي يخوضه على فلسطين؛ بدءًا من مقولته الكاذبة «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»، إلى محاولة إثبات وجود تاريخي لليهود بفلسطين.
وإزاء فشله في إثبات مزاعمه عن الوجود التاريخي، فإنه يلجأ إلى محو الوجود الثابت العربي والإسلامي؛ كما حدث مع «حي المغاربة» الذي دمره الكيان في عدوان عام 1967م، وكما يحاول باستمرار من خلال أعمال الحفر والتنقيب تحت «الأقصى» والقدس.