كان الفتى أحمد يجلس على كرسيه المتحرك، منهكًا بعد أن أصابته شظايا أحد صواريخ الاحتلال، في مشهد يعكس قسوة الواقع الذي يعيشه سكان قطاع غزة.
وبخطوات عاجلة، تقرر نقله إلى مستشفى كمال عدوان شمال القطاع لإنقاذ حياته، لكن لم تكتمل رحلة الأمل؛ فعند وصوله إلى قسم الاستقبال، باغت الاحتلال المستشفى بقصفٍ مباشر، ليستشهد أحمد على الفور، تاركًا خلفه حلم النجاة الذي تحطم أمام وحشية العدوان.
ظن أحمد أن المستشفى سيكون ملاذًا آمنًا، ولكن صواريخ الاحتلال الغادرة أبت إلا أن تجعل من الأمان سرابًا، فقد بات المرضى والأطباء أنفسهم أهدافًا في بنك استهدافٍ لا يميز بين إنسان وأي شيء آخر، ليظل الموت يخيم على كل زاوية في غزة.
إعدام الأطباء
الطبيب سعيد جودة لم يكن الطبيب الوحيد الذي تم إعدامه أثناء تنقله من مستشفى العودة إلى مستشفى كمال عدوان، فقد سبق قبله إعدام الكثير من الأطباء خاصة من هم أصحاب التخصصات النادرة في القطاع وأصحاب الخبرات التي يحتاجها المرضى كثيراً.
رغم أنه كان يرتدي المعطف الأبيض الذي يؤكد بأنه طبيب، فإن ذلك لا يعني شيئاً أمام ظلم الاحتلال النازي الذي فاق كل التصورات، وتجاوز كل الخطوط الحمراء.
الاستهداف كان متعمداً، فكانت إصابته من قبل «الكواد كابتر» المزودة بأجهزة مراقبة قادرة أن تعلم بأنه طبيب ولا يحمل شيئاً بيده، وطبيعة الإصابة في الرأس أكدت نية الاحتلال إعدامه، رغم أنه لا يوجد أي مبرر لإعدام طبيب كان يسرع في خطواته لإنقاذ الجرحى.
بلسم جروح غزة
الطبيب مدحت صيدم من الأطباء النادر جداً تخصصه في قطاع غزة، فهو أحد مؤسسي قسم الحروق في مستشفى الشفاء بمدينة غزة، كان بلسماً لجروح غزة خاصة في الحروب لما ينتج عنها أضرار كبيرة للجرحى يكون عدد منهم بحاجة لعملية صعبة ترتبط بتخصصه الحروق والتجميل.
الاحتلال لم يقتصر على إعدامه فحسب، بل أعدم زوجته وأبناءه وأكثر من 25 من أقاربه.
المعطف الأبيض لم يشفع له كذلك، رغم أنه يمتلك حصانة بكافة القوانين الدولية والإنسانية بالحياد التام عن استهداف الأطباء، إلا أن غزة خارجة عن هذه الحصانة في نظر الاحتلال الظالم.
عمل تحت الصواريخ
حقيقة لا نعلم حجم الضغوط التي يعيشها الطبيب والممرض وكافة أفراد الطاقم الطبي، فهم ليسوا مجهدين فحسب بسبب الأعداد الهائلة التي تصلهم خلف كل مجزرة من الشهداء والجرحى؛ بل إنهم يعملون تحت قصف الصواريخ للمستشفيات المتهالكة واستهدافهم داخل أروقتها، ورغم ذلك فإنهم يواصلون عملهم، فلم يترك أي منهم الجرحى.
والأمر لا يتوقف على ذلك؛ بل يزداد كلما وصل شهداء وجرحى كانوا أبناء وعائلة الطبيب، فالمصاب كبير، لكن مع ذلك يكمل عمله وقلبه موجوع، والدموع تغرق ملامح وجهه المنهكة من التعب والخوف والحزن.
لقيمات صغيرة
كل ذلك الجهد بدون أدنى مقوماته من الطعام، فكل الذي يحصل عليه الطاقم الطبي بعد ساعات طويلة قطعة صغيرة من الخبز إن وجدت، لتحافظ على بقائه على قيد الحياة.
المرضى كانوا كذلك ضمن سياسة الإعدام المتعمدة خاصة بعد استهداف مستشفى كمال عدوان مرات عديدة؛ الأمر الذي أدى إلى اشتعال النيران في أقسامه، وانقطاع التيار الكهربائي، هذا الأمر أدى إلى توقف أجهزة الأوكسجين عن العمل؛ فكانت بمثابة إعدام الجرحى، وقتل الأطفال الخدج داخل الحضانة.
سيارات الإسعاف
سيارات الإسعاف بدورها يتم استهدافها من قبل صواريخ وارتقاء من فيها من مسعفين وجرحى.
تواصل الحرب لأكثر من عام أنهك القطاع الصحي وطواقم العمل بعد نفاد المستلزمات والأدوات الصحية والأدوية، حتى مادة التخدير لم يعد لها وجود، وكثير من العمليات تجرى بدون تخدير!
وهنالك العديد من الإصابات التي حيرت الأطباء عن فهمها، خاصة أن الاحتلال يستخدم أسلحة متطورة صنفت بأنها محرمة دولية، لا تعمل على إذابة اللحم فحسب، بل العظم كذلك؛ الأمر الذي جعل من العثور على الكثير من الجثامين أمراً محالاً.
كثير من العمليات تم تأجيلها رغم حاجة الجرحى لإجرائها، لكن ليس باليد حيلة، فما تبقى من بقايا المستشفيات المتهالكة عاجزة عن استيعاب هذه العمليات، وعدد من الجرحى تكون إصابتهم ليست بالخطيرة، لكن نظراً لمنع الاحتلال وصول الإسعاف إليهم فإن الجريح ينزف لساعات حتى يرتقي.
حقيقة الكلمات عاجزة أمام وصف الوضع الطبي في قطاع غزة، فالواقع أكبر بكثير من حروف تصفه.