في يوم «بدر» التقى الْجَمْعَان؛ جَمْعُ الله، وجمع الشيطان، يومذاك كانت زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم بمكة تَصْبر صبر العاجزين، وَتَجْتَر مشاعر الخائفين المفزوعين، وتَلوذ بالله منتظرة عمَّا تنفرج الأمور.
ففي الفريق الأول الذي خرج طالباً حقه في تبليغ دعوة ربه يقف أبوها النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الفريق الثاني الذي خرج طالباً عزة زائفة يقف زوجها أبو العاص بن الربيع، وانفرجت الأمور عمَّا تُحب وتطمح، انتصر أبوها صلى الله عليه وسلم وأُسِرَ زوجها، ما أجمل لو آب إليها مهزوماً، ولكن لا بأس بالأَسْرِ طالما بَقْيَ حياً ولم تُرَمل هي أو يُيَتم وَلَدَاهَا عليّ، وأُمَامَة، وسوف تفتديه بأعَزِّ ما تملك.
وأرسلت مع أخيه عمرو بن الربيع بقلادتها الأثيرة على نفسها التي كانت هدية أمها خديجة رضي الله عنها يوم زفافها إلى أبي العاص بن الربيع ابن أختها هالة بنت خويلد(1)، وأدنى صلى الله عليه وسلم صهره منه وأخذ عليه أن يُخَلِّي سبيل زينب ويَدَعَها تُهاجر إلى المدينة، وأَبْدَى أبو العاص موافقته مقتنعاً، ثم يَمْمَّ شطر مكة، وفي لهجة شفوقة حانية قال لزينب: إن أباكِ طلب مني أن أُرسلكِ إليه لأن الإسلام فرَّقَ بيني وبينكِ، وقد تَعَهَدْتُ له أن أدعكِ تسيرين إليه، وما كنت لأنْكُث عهدي فتجهزي للسفر.
للاطلاع على باقي حلقات فتيات تحت راية النبي ﷺ
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة: «ألا تنطلق فتجيئني بزينب؟»(2)، فقال رضي الله عنه: بلى يا رسول الله.
وخرجت زينب إلى زيد بن حارثة مع حميها كنانة بن الربيع، ولم تُفِدْ المصادر التي بين أيدينا بحال طفلي زينب رضي الله عنها؛ عليّ، وأُمَامَة، وقتذاك، وكل ما جاء في مولد أُمَامَة أنها ولِدَتْ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
ورفع التاريخ قلمه عن زينب، وأبي العاص، قرابة ست سنين، رغم أنه كان كثير الوقوف في تلك الفترة المُتْرَعَة(3) بالأحداث الجسيمة، وإذا كَثُرَ وقوفه أو حتى تَمهَّل كَثُرَ تسجيله، بيد أن زينب رضي الله عنها كانت تؤثر اللون الهادئ من الحياة فَلَزَمتْهُ حتى في عبادتها وتربية وَلَديْهَا.
كما أننا لم نسمع خبراً عن أبي العاص أو نلمح له طيفاً ولو باهتاً بين الأحداث سوى أنه لمَّا كان قافلاً إلى مكة من تجارة في الشام، ومعه عيره التي بلغت مائة بعير، ورجاله الذين زادوا عن المائة والسبعين رجلاً، برزت له سرية من سرايا المسلمين بالقرب من المدينة، فأخذت العير وأسرت الرجال، ولكن أبا العاص أفلت منها فلم تظفر به، فلمَّا أرخى الليل استتر أبو العاص بظلامه ودخل المدينة، واستجار بزينب فأجارته، وخرج صلى الله عليه وسلم لصلاة الفجر، فهتفت زينب من صفوف النساء: أيها الناس، إنا زينب بنت محمد، وقد أجرت أبا العاص فأجيروه، فأجاره صلى الله عليه وسلم والمسلمون وردُّوا عليه ماله.
فعاد إلى مكة بالإبل وما عليها، وأدى لكل ذي حق حقه، ثم قال: يا معشر قريش، هل بقي لأحد منكم عندي مال لم يأخذه، فقالوا: لا وجزيت خيراً، فقد وجدناك وفياً كريماً، فقال: أما وإني قد وفيت لكم حقوقكم، فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، ووالله ما منعني من الإسلام عند محمد في المدينة إلَّا خوفي أن تظنوا أني إنما أردت أن آكل أموالكم، فلمَّا أداها الله إليكم وفرغت ذمتي منها أسلمت، ثم قَدِمَ المدينة على النبي صلى الله عليه وسلم مسلماً فأكرم وفادته، وردَّ عليه زوجته، وكان صلى الله عليه وسلم يقول عنه: «حدثني فصدقني، ووعدني فوفى لي»(4).
ولم تمتد هناءة الأسرة الصغيرة سوى عام واحد، ففي مستهل سنة 8هـ أَذِنَ القدر بفراقٍ لا تلاقي بعده إلَّا في الفردوس الأعلى حين لبت السيدة زينب رضي الله عنها نداء ربها راضية مرضيَّة، وهنا فحسب بدأ التاريخ يسجل عن أُمَامَة بنت أبي العاص، لا نعرف كم كان عمرها بالتحديد، لكنها أَلْفَتْ(5) في جَدِّها النبي صلى الله عليه وسلم ما افتقدته في رحيل أمها، فقد كان صلى الله عليه وسلم يتعهدها بالحب والحنو، ويُدَلِّلُها ويَحْمِلُهَا حتى في صلاته.
يقول أبو قتادة الأنصاري رضي الله عنه: إنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ كانَ يُصَلِّي وهو حَامِلٌ أُمَامَةَ بنْتَ زَيْنَبَ بنْتِ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأَبِي العَاصِ بنِ الرَّبِيعِ، فَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا وإذَا سَجَدَ وضَعَهَا(6)، وللعلماء في موقفه الشريف مع حفيدته أُمَامَة عدة أقوال، فعن مالك أن ذلك للضرورة، حيث لم يجد من يكفيه أمرها، وقال بعض أصحابه: لأنه لو تركها لبكت وشغلت سره في صلاته أكثر من شغله بحملها، وفرَّق بعض أصحابه بين الفريضة والنافلة، وقال الإمام النووي في شرح الحديث: وفي الحديث مشروعيَّةُ حَملِ الطفلِ أثناء الصلاة.
ووجدت المدينة في أُمَامة بنت أبي العاص بعض العزاء عن أمها فكانت تَهُشّ(7) لها من أقصاها إلى أقصاها(8)، ولمَ لا؟ وهي تراه صلى الله عليه وسلم يحتفي بها ويتابعها ببصر سعيد، بل إنه صلى الله عليه وسلم كان يعتبرها أحب أهله إليه.
تقول عائشة رضي الله عنها: أُهْدِي لرسول الله صلى الله عليه وسلم قلادة من جَزْع(9) ملمعة بالذهب ونساؤه مجتمعات في بيت كلهن، وأمامة بنت أبي العاص بن الربيع جارية تلعب في جانب البيت بالتراب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف تَرَيْنَ هذه؟»، فنظرن إليها فقلن: يا رسول الله، ما رأينا أحسن من هذه قط ولا أعجب! فقال صلى الله عليه وسلم: «ارْدُدْنهَا إلىَّ»، فلما أخذها قال: «والله لأضعنَّها في رقبة أحب أهل البيت إليَّ»، فأقبل بها صلى الله عليه وسلم حتى وضعها في رقبة أمامة بنت أبي العاص، فَسُرِّي عنَّا(10).
ودليل آخر على شدة تعلقه صلى الله عليه وسلم بأمامة وكثرة حُنوِهِ عليها، تَسُوقه السيدة عائشة فتقول: أَهْدى النجاشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حلقة فيها خاتم ذهب فيه فصٌّ حبشيٌّ، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعود وإنه لمعرض عنه أو ببعض أصابعه، ثم دعا بابنة ابنته أمامة أبي العاص، فقال: «تَحلِّي بهذا يا بنية»(11).
وربما يشي هذا الحديث بأن أُمَامَة قد تقدمت في السن شيئاً لقول عائشة بأنه صلى الله عليه وسلم دعا أمامة وطلب منها أن تتحلى بالخاتم، أما في الحديث الذي قبله أخبرتنا أن أُمَامَة كانت تلعب في جانب البيت بالتراب، وأن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي قَلَّدَهَا القلادة.
وتوالت الفوادحُ(12) التي هزَّت نفس أُمَامَةِ الصغيرة وعالمها، وجعلت تسعى بها بين أوجاع الأحزان ومرارتها، فبعد رحيل أمها لم تتقلب في أَعْطَاف الكنف(13) الشريف سوى قرابة سنوات ثلاث، وصعد جدها النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، وما كرَّ الزمن إلَّا ستة أشهر تقريباً حتى لحقت خالتها الوحيدة فاطمة الزهراء بأبيها سنه 11هـ، وارتفعت مرتفقة إلى أُخراها مُشوَّقة إلى أبيها صلى الله عليه وسلم، وحُملت بليل بعد أن أوصت عليّاً رضي الله عنه بأن يتزوج من أمامة بمجرد أن يدركها طور الفتيات.
وعن قرب تعود الفوادح إلى التتابع في حياة أُمَامَة، فبعد عام تقريباً من رحيل الزهراء رضي الله عنها يتسامى أبوها أبو العاص عن دنياه ويرتفع إلى أخراه مشوقاً إلى حميه النبي صلى الله عليه وسلم وزوجته الحبيبة زينب رضي الله عنها، بعد أن أوصى الزبير بن العوام بأمامة وعهد بها إليه؛ لأن أخاها علياً كان قد توفي وقد ناهز الاحتلام في حياة جدها النبي صلى الله عليه وسلم، وما أن أدركت أمامة طور النساء حتى سارع عليّ رضي الله عنه إلى الوصي عليها الزبير رضي الله عنه الذي زوّجها منه عملاً بوصية الزهراء رضي الله عنها.
وفي دار عليٍّ مرت الحياة بأمامة هادئة، بيد أنها كانت تؤسر اللون الهادئ منها ميراثاً من أمها الراحلة، رغم حدسنا بأنها كانت هناك بجوار زوجها تُعينه على أحداث حياته الجسام وتقاسمه أعباءها لا سيما لما تولَّى أمر المسلمين وخاض حروب الفتنة.
كانت أُمَامَة تفعل كل ذلك في هدوء وحب وقناعة، ولم تهدأ بها الفوادح طويلاً وما لبثت أن عادت تفعم نفسها الطيبة بأوجاعها وتُذِيقها مرارة التَّرَمل وانكساره بعد أن أشبعتها من مرارة اليتم وقهره لما سقط أمير المؤمنين جريحاً ورحل عنها شهيداً مجيداً.
وكان رضي الله عنه لما أدرك أنها النهاية وأنه لم يعد له من حياته سوى فضلة من أنفاس، قد فكَّر في أمرِ أُمَامَة، ولم يدعها وشأنها، أو يدع شأنها لها، وإنما حذراً عليها واكتراثاً بأمرها أمر المُغِيرَة بن نوفل بن الحارث بن عبدالمطلب أن يتزوجها بعده خوفاً من أن يتزوجها معاوية بن أبي سفيان، وقال رضي الله عنه لأُمَامَة: إني لا آمن أن يخطبك هذا بعد موتي –يعني معاوية– فإن كان لك في الرجال حاجة فقد رضيت لك المُغِيرَة بن نوفل عشيراً.
وفي دعة وحبور صعدت روح الإمام إلى بارئها بعد شوق امْتَدَّ بها واشْتَدَّ، وروَّع الحدث أُمَامَة أشد الروع وأقساه، وطفقت تطوف بجثمان الشهيد المسجَّى في مشهد ترتج منه القلوب حزناً وتأثراً، حتى أنشدت أم هيثم النخعيَّة في مشهدها ذاك محزونة باكية:
أَشَابَ ذَوَائِبي وأذَلَّ رُكْني أُمَـامَـة حـين فـارقت القَـرِينَا(14)
تُطِيــفُ بـه لحـاجـتهـا إلـيـه فلمَّا اسْتَيْأَسَتْ رَفَعَتْ رَنِينَا(15)
فلما انقضت عِدَّتها كتب معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه إلى مروان بن الحكم والي المدينة يأمره أن يخطبها عليه، وبذل لها مائة ألف دينار، فأرسلت إلى المُغِيرَة: إن هذا قد أرسل يخطبني، فإن كان لك بنا حاجة فأقبِل، فخطبها المُغِيرَة إلى الحسن بن علي رضي الله عنها فزوَّجها منه(16)، وكان المُغِيرَةُ محباً لعمه عليّ وشهد معه حربه ضد معاوية رضي الله عنهم جميعاً.
وولدت له أُمَامَة ولده يحيى، وبه كان يُكنَّى (وقال ابن سعد في طبقاته: إن أُمَامَة بنت أبي العاص قالت للمُغِيرة بن نوفل: إن معاوية خطبني، فقال لها: أتتزوجين ابن آكلة الأكباد، فلو جعلتِ ذلك إليَّ، فقالت: نعم، قال: قد تزوجتكِ، قال ابن أبي ذئب: فجاز نكاحه).
وعادت أُمَامَة رضي الله عنها تمارس حياتها نَائِيَة(17) عن ناظري التاريخ من خلال لونها الهادئ والأثير لديها الذي تُكَدِّرَهُ(18) قوانين الحياة وطبائع البشر بلا ريب، ومن حين لآخر تعيش في زمن غير الزمن مسترجعة تلكم الفَوَادِحَ التي ألمَّتْ بها متتابعة عن قرب، مستشرفة ذلك الهدوء الذي لا يُكَدَّر الذي ينتظمه جمال أَبَدِّيٌ مطلق لا يوصف، ولا يَرْقَى إليه خيال، وينتظم معه الأهل والأحباب الأم والأب والخالات والأخ والجد النبي صلى الله عليه وسلم، وتمرُّ الأيام ولا يتوقف مرور طموحها إلى هذا الهدوء في نفسها الطيبة، وفي أيام معاوية بن أبي سفيان، وهي عند المُغيرة بن نوفل رضي الله عنهم جميعاً، رقت أُمَامَة الطيبة إلى هناك(19).
____________________
(1) راجع: قصة الفداء كاملة في قصة زينب رضي الله عنها، كتاب «فلذات كبد النبي صلى الله عليه وسلم»، للمؤلف/ ط. دار التوفيقية للتراث بالقاهرة.
(2) حديث حسن، أخرجه الحاكم (4/ 43)، والبيهقي (3/ 156) في الدلائل.
(3) المليئة.
(4) حديث صحيح، أخرجه البخاري (3523)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (1638).
(5) وجدت.
(6) حديث صحيح أخرجه الإمام مسلم (543).
(7) ينشرح صدر الناس سروراً بها.
(8) من شمالها لجنوبها ومن شرقها لغربها.
(9) عقد من خرز يماني.
(10) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد، كتاب المناقب، باب مناقب أُمَامَة بنت زينب رضي الله عنها (15391).
(11) حديث حسن، أخرجه الألباني في صحيح ابن ماجه (2955).
(12) جمع فادِحَةٌ، وهي النَاِزلة أو المُصيبة.
(13) أَعْطَافُ: جمع عِطف وهو الجانب، والكَنَفُ: الرعاية والحفظ.
(14) أَشَابَ: شيَّبَ، والذَّوَائِبُ: جمع ذؤبة وذؤابة، وهي الشعر المُتَدَلِّي من الضفيرة عند النساء، وربما تقصد بأذلّ رُكْني أركان جسدي وقوتي، لأن رُكْن الإنسان قوته وشدته، وربما أرادت وأذلّ عزِّي لأن الرُكْن تعني: العزَّ والمنعة.
(15) صوت ينتج عن صوت مرتفع سواء كان ذلك بالبكاء أو الغناء.
(16) قال الدَّارَقُطْنيِّ في كتاب الإخوة: تزوجها بعد عليّ، المُغيرة بن نوفل، وقيل: بل تزوجها بعده أبو الهياج بن أبي سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب.
(17) بعيدة.
(18) تُعكِّرَهُ.
(19) نسب قريش للمصعب الزبيري (158)، طبقات ابن سعد (8/ 26)، أنساب الأشراف (1/ 400)، تاريخ الإسلام (1/ 24)، الاستيعاب (3281)، الإصابة (10828)، أسد الغابة (6724).