يطول الطريق عند بعض السائرين إلى الله تعالى فنجده يصاب بوَهْن الالتزام، مائلاً إلى التسيب وعدم الانضباط، وحتى لا نقع في هذا العائق ونحمي أنفسنا منه فلا بد من تقديم تصور كامل عنه.
الأصل في حياة المسلم الذي يحمل هَمَّ الدعوة أنه ما من سبيل يخدم هذه الدعوة إلا سلكه وبذل الجهد من خلاله حتى يُعلي شأن دعوته وتتحقق أهدافه، إلا أن البعض يتفاجأ به وقد وقع في التقصير وعدم الوفاء بما تعهَّد به وفرضه على نفسه من الصالحات حين رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، وحين رضى أن يكون في صفوف العاملين لتمكين منهج الله تعالى في الأرض.
العواقب
وعواقب هذا العائق على الفرد والعمل الإسلامي كثيرة، فعلى مستوى الفرد:
– الابتعاد عن العبادة الحقة؛ وذلك لأن وهْن الالتزام يفسح المجال لانتشار الشر والباطل، ومن ثم يصبح هم الفرد الحفاظ على الحد الأدنى من العبادة، وهذا ما يبعده عن العبادة الحقة لله تعالى.
– فقدان ثقة الناس؛ وذلك لأنهم لا يتأثرون بالكلمات قدر ما يتأثرون بالسلوكيات، وصدق من قال: «عمل رجل في ألف رجل خير من قول ألف رجل في رجل».
– الأمراض النفسية؛ وذلك لأن من وقع في وهْن الالتزام وقع في معصية الله تعالى، وللمعصية آثارها الخطيرة التي تتسبب في القلق والاضطراب النفسي، ولعل هذا بعض سر قوله تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى {124} قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً {125} قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى) (طه).
ومن عواقبه على مستوى على العمل الإسلامي:
– سهولة اختراق صف العاملين للإسلام، ومن ثم ضرب العمل أو على الأقل تطويقه والإقلال من آثاره الإيجابية على المجتمع.
– عدم كسب مؤيدين جدد؛ وذلك لأن كسب هؤلاء يكون بكسب ثقتهم أولاً، ووهْن الالتزام يقضي على هذه الثقة.
– الحرمان من عون الله تعالى، وذلك نتيجة التقصير في حق الله تعالى، ولعل هذا هو بعض سر قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد: 7).
الأسباب
لوقوع البعض في «وهْن الالتزام والميل إلى التسيب» أسباب كثيرة ومتنوعة، منها:
– عدم فهم ومعرفة معالم الالتزام: وذلك أن عدم إدراك معالم أي أمر من الأمور يؤدى إلى رفضه، بل ومعاداته في بعض الأحيان كما قال الله تعالى: (بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) (يونس: 39).
– وهْن الإيمان: وذلك أن الإيمان هو مصدر الطاقات المتجددة، بل هو الحارس والحامي للمسلم من الوقوع في الإهمال أو التقصير، ولعل هذا هو سر قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن» (متفق عليه).
– المحن والابتلاءات: لا شك أن المحن والابتلاءات لها وقعها الشديد على الإنسان لا سيما إذا كان يجهل طبيعة طريق الالتزام، ولعل هذا هو السر في حديث القرآن الكريم في أكثر من آية عن هذا الابتلاء، قال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ {155} الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ {156} أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (البقرة)، وقال تعالى: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا ۚ وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُور) (آل عمران: 186)، وقال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِن دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ۚ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (التوبة: 16).
– الوقوع في شبهات الشيطان: وذلك أن الشيطان قد أخذ العهد على نفسه في إضلال المسلمين بإلقاء الشبهات والأباطيل كي يصرفهم عن طريق الله تعالى، وعندما يقع المسلم في هذه الشبهات يبتلى بوهْن الالتزام والميل إلى التسيب، ولعل هذا بعض سر قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) (البقرة: 208).
– إهمال ورد المحاسبة: وذلك أن إهمال محاسبة النفس على تقصيرها يجعلها تتعود على هذا التقصير لا سيما إذا كان هذا مصحوباً بعدم متابعة المربين، ولعل هذا هو السر في حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على متابعة أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أصبح منكم اليوم صائماً؟»، قال أبو بكر: أنا، قال: «فمن تبع منكم اليوم جنازة؟»، قال أبو بكر: أنا، قال: «فمن أطعم منكم اليوم مسكيناً؟»، قال أبو بكر: أنا، قال: «فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟»، قال أبو بكر: أنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة» (رواه مسلم).
– الغفلة عن عواقب وهْن الالتزام: وذلك أن الإنسان عندما يغفل عن عواقب الشيء الذي يقوم به يتهاون في الوقوع فيه، ولعل هذا بعض سر قوله تعالى: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ {60} وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ {61} وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ) (يس).
كيف يعرف المسلم أنه مصاب بوهْن الالتزام؟
لوهْن الالتزام مظاهر تدل عليه، وعلامات يُعرف بها منها:
1- عدم الدقة وعدم الانضباط في الأعمال والحديث والمواعيد.
2- التسرع في إصدار الأحكام دون تثبت أو تبين.
3- عدم رعاية أدب الاختلاف، والفجور في الخصومة.
4- نبذ الطاعة إلا فيما يوافق هوى النفس.
5- عدم التضحية سواء بالنفس أو بالمال أو الوقت أو بهم جميعاً.
6- عدم الانضباط في الحركة، واستعجال النصر دون تأنٍّ أو تروٍّ أو تأهب.
7- عدم الثبات أمام مطامع الحياة الدنيا، وعند المحن والشدائد، وإهدار حقوق الإخوة(1).
العلاج
لكي يحمي المسلم نفسه من الوقع في وهْن الالتزام فلا بد له من:
1- الإدراك الذهني والقلبي لمعالم الالتزام، حتى يكون المسلم على بينة من أمره، فيفرح عندما يكون ملتزماً، ويحزن عندما يكون مقصراً.
2- الحرص على تجديد الإيمان وتقويته في النفس، فإن ذلك يولد طاقات وإمكانات تقوي الالتزام والانضباط.
3- معرفة طبيعة الطريق وما يتطلبه من استعداد النفس للتضحية بالمال والنفس والوقت.
4- الحذر المستمر من كيد الشيطان ووسوسته مع معرفة سبل النجاة من هذه الوساوس.
5- الحرص على محاسبة النفس للوقوف على جوانب الضعف والخلل فيها لمعالجتها، والتوبة وعدم الوقوع في ذلك مرة أخرى.
6- المعايشة المستمرة للقرآن الكريم، فإنه معين صافٍ للتثبيت، وكذلك معايشة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم فإنها مليئة بالمواقف التي نتعلم منها الانضباط والالتزام، وحسبنا ما جاء عن حذيفة رضي الله عنه حيث قال: لقد رأيتني مع الرسول صلى الله عليه وسلم ليلة «الأحزاب» وأخذتنا ريح شديدة وقر (أي برد)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة؟»، فسكتنا فلم يحبه أحد منا ثم قال: «ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة؟»، فسكتنا فلم يحبه منا أحد فقال: «ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة؟»، فسكتنا فلم يحبه أحد منا.
فقال: «قم يا حذيفة فأتنا بخبر القوم»، فلم أجد بداً إذ دعاني باسمي أن أقوم فقال: «اذهب فأتني بخبر القوم ولا تذعرهم عليَّ»، فلما وليت من عنده جعلت كأنما أمشي في حمام حتى أتيتهم، فرأيت أبا سفيان يصلى ظهره بالنار، فوضعت سهماً في كبد القوس فأردت أن أرميه، فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ولا تذعرهم عليَّ»، ولو رميته لأصبته فرجعت وأنا أمشي في مثل حمام، فلما أتيته فأخبرته بخبر القوم وفرغت قُرِرْتُ (أي بردت)، فألبسني رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها، فلم أزل نائمًا حتى أصبحت، فلما أصبحت قال: «قم يا نومان»(2).
__________________
(1) آفات على الطريق، د. السيد محمد نوح (1/ 250)، بتصرف.
(2) أسد الغابة، ابن الأثير (1/ 467).