كيف سيحتفل المسيحيون بما يسمى بعيد الميلاد داخل كنائسهم الكبرى بقيادة كهنة خان بعضهم أمانة الدين.
كيف يعظون الناس وهم منغمسون في الخطيئة؟ فكنيسة إنجلترا -الكنيسة الأم للطائفة الأنجليكانية- حسب تقرير رسمي، قامت بتغطية «الاعتداءات الجسدية والجنسية والنفسية والروحية المؤلمة» التي وقعت في بريطانيا وزيمبابوي وجنوب أفريقيا على مدى عدة عقود؛ ما أدى -قبيل الكريسماس- إلى استقالة رئيس أساقفة كانتربري جاستن ويلبي، الذي أبدى شعوراً كبيراً بالخزي والعار.
في صدمة غير مسبوقة، استقال رئيس أساقفة كانتربري بإنجلترا، وهي الاستقالة الأولى من نوعها منذ تأسيس هذا المنصب قبل 1427 عاماً، جاء ذلك إثر تقرير صادم كشف تستر الكنيسة على اعتداءات جنسية ارتكبها أحد مسؤوليها السابقين ضد أكثر من مائة شاب وطفل، واتهم ويلبي بمعرفته بالقضية منذ عام 2013م دون اتخاذ خطوات حاسمة.
واستقالته ليست مجرد نهاية لمسيرته كأعلى رتبة كنسية في البلاد وعلى مستوى الأنجليكان في العالم، بل كما قال أحد القساوسة: «لا أحد من رؤساء الأساقفة تسبب في مثل هذا الضرر للكنيسة منذ الإصلاح الديني»، ويطالب الضحايا بإقالة اثنين آخرين من الأساقفة لتورطهم في نفس الفضيحة(1).
سيتولى رئيس أساقفة يورك، ثاني أكبر رجل دين في كنيسة إنجلترا، المسؤولية لبضعة أشهر في العام الجديد، ولكنه كذلك تحت ضغوط للاستقالة لأنه أساء التعامل مع قضية مشابهة، حيث أبقى كاهناً في منصبه تحت قيادته، على الرغم من علمه بأن الكنيسة منعت الكاهن من البقاء بمفرده مع الأطفال ودفعت تعويضات عن الاعتداء الجنسي.
الكاثوليك أيضاً
في إنجلترا وويلز، أثبت تحقيق مستقل أن 3000 حالة اعتداء جنسي من قبل الكهنة الكاثوليك وقعت ما بين عامي 1970 و2015م، ومنذ عام 2016م هناك مائة حالة سجلت سنوياً، حيث يعاني الضحايا من تأثيرات نفسية هائلة من الشعور بالذنب والاكتئاب والكوابيس وأعراض ما بعد الصدمة، بل وإيذاء النفس، وتدمير الثقة في الكنيسة(2)، كما أدى إلى انخفاض كبير للحضور الجمعي للكنائس.
وحالات الاعتداء الجنسي الكاثوليكية بالآلاف في أوروبا وأستراليا ونيوزيلندا وكندا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا، وهناك دعاوى قضائية، وملاحقات جنائية ضد كهنة كاثوليك وأعضاء في النظام الديني من الرهبان.
في أمريكا مثلاً، دفعت الكنائس أكثر من ملياري دولار كتعويضات لأسر الضحايا من الأطفال الذين اُعتدِي عليهم داخل الكنائس، أما في أيرلندا فقد هزت تقارير الاعتداءات الجنسية قادة الكنيسة الكاثوليك، والدولة على حد سواء؛ ما أدى إلى استقالة الحكومة، وفي فرنسا أثبت تحقيق صادم أن 216 ألف طفل اُعتدِي عليهم جنسياً من كهنة الكنائس الكاثوليكية هناك منذ الخمسينيات(3).
هؤلاء مرغوا أنف الكنيسة في التراب، وجعلوا بابا الفاتيكان يشعر بالعار، وكشف تقرير آخر عن قيام الكثير من القساوسة والأساقفة في الكنائس الكاثوليكية باستغلال سلطتهم الدينية والاعتداء الجنسي على الراهبات واغتصابهن وإجبارهن على الإجهاض أو منع الحمل، مشيراً إلى أنه تم الكشف عن العديد من حالات الاعتداء في 23 دولة، منها أمريكا، والبرازيل، والفلبين، والهند، وأيرلندا، وإيطاليا، بل وداخل الفاتيكان(4).
أزمة المسيحية في بريطانيا
وعن اتجاهات المشاركة، أصدرت كنيسة إنجلترا الإحصاء الأخير لعام 2019م قبيل جائحة «كورونا»، وجاء فيه أن معظم مقاييس الحضور في خدمات الكنيسة انخفضت تدريجياً خلال 10 سنوات بنسبة 20%، وانخفض الحضور الأسبوعي المعتاد يوم الأحد إلى 690 ألف (87% بالغون، و13% أطفال دون سن 16 عاماً)(5).
وأشارت دراسة أصدرتها مؤسسة البحث المسيحي أنه بعد 20 عاماً ستتعرض 4 آلاف كنيسة للإغلاق، وتتوقع أن ينمو ويتضاعف عدد المسلمين النشطين الملتزمين إلى 3 ملايين وهو أكثر من 3 أضعاف العدد المتوقع لعدد المسيحيين الذين يحضرون قداس الأحد(6).
أسباب الأزمة
هل السبب هو الانفصام التاريخي بين الدين المسيحي، والعلم والعقل، ومن ثم عن الحياة؟ هل هو ضغط الحياة الاقتصادية المادية، أم سوء التربية ووجود الإنترنت الذي يملأ فراغ الشباب بالفراغ، أم عزوف الشباب لعدم عقلانية أو منطقية عقيدة التثليث، وعقيدة الخلاص من خطيئة آدم بصلب عيسى؟ هل هو التناقض بين نُسخ الإنجيل المختلفة وعدم وجود الأصل الذي أنزل على عيسى، أم هو التعارض بين المذاهب المسيحية المختلفة، أم جفاف التعاليم (الحالية) من منهجية متكاملة للحياة؟
تقول ليندا وودهيد، أستاذة علم اجتماع الدين بجامعة لانكستر: «إننا نعيش أكبر تحول ديني منذ إصلاح القرن السادس عشر»، ولكن لماذا فقدت بريطانيا الجذور المسيحية التي شكلت بعمق تاريخها وثقافتها وحتى دولة الرفاهية فيها؟ فتجيب: «إن كنيسة إنجلترا وكنيسة إسكتلندا في حالة انهيار، لقد فقدت الكنيسة اتصالها بحياتنا اليومية وأصبحت تنظر إلى الداخل بدلاً من أن تكون كنيسة واسعة للمجتمع بأسره، لقد فشلت في الفوز بقلوب وعقول الشباب لعدة أجيال الآن»(7).
والصعوبات مستمرة في وجه المسيحية، فالإيمان بإله في انخفاض، فيقول ربع البريطانيين فقط (27%): إنهم يؤمنون بالفعل بإله(8)، وطبقاً لآخر إحصاء قومي عام 2011م، فإن 37% من سكان إنجلترا وويلز لا يؤمنون بأي دين (كانت النسبة 25% في الإحصاء السابق)(9).
رأي قادة الكنائس
قال رئيس أساقفة الكنيسة الكاثوليكية في إنجلترا وويلز: إن المسيحية لم تعد مصدراً من مصادر التوجيه الأخلاقي في حياة الناس أو الحكومة في المجتمع المعاصر، والناس يتطلعون حالياً إلى الحركات الحديثة وعضوية الجمعيات الداعية إلى المحافظة على البيئة كبديل عن الدين، وقال: إن الناس يجدون في النمط الاستهلاكي والتسوق بديلاً عن الثقافة الدينية، وأعرب عن اعتقاده بأن ما تعرضت له الكنيسة من أضرار يعود جزئياً إلى الفضائح الجنسية للقسيسين، وبدت الموسيقى والممارسات الغامضة وكأنها تحل محل المسيح كشيء يمكن أن يثق به الشباب، وأكد أن المجتمع يفقد جانباً من قيمه الأخلاقية، وبدأ الناس يلجؤون إلى وسائل للسعادة الزائفة الوقتية عبر الخمور والمخدرات والإباحية، متجهين لعدم الاكتراث بالقيم الدينية(10).
ويقول دافيد فوياس، أستاذ الدراسات السكانية بجامعة مانشستر: «إن المشكلة هي عدم حضور الشباب للكنائس، لأنهم يستهزئون بمن يذهب، ويوجد تصور اجتماعي بينهم يصم من يحضر بالعار والاحتقار»! ويقول: «إن شباب المسلمين مختلفون فهم يعتبرون الدين ميراثاً يعتز به، وهو مسألة هوية تتأكد عندهم بالتزامهم أكثر من آبائهم»(11).
المستقبل للإسلام
إن النصرانية بعدما حُرفت أصبحت غير قادرة على هداية العقل أو متابعة العلم، أو تنظيم الحياة، فعقيدة تأليه البشر وولادة ابن للإله يموت على الصليب تصادم المنطق، وفصل الدين عن الدولة ازدواجية، والخلو من الشريعة يقلص الدين لقاعات التراتيل، والشعب يرى في الكنيسة طقوساً لا ترقى أن تكون منهج حياة.
وأخذ الأمر منعطفاً مهماً في بريطانيا مع ظهور الإسلام فيها كدين ثانٍ متنام، يرتبط أتباعه بدينهم وبالمساجد (التي زاد عددها إلى ألفين) أكثر مما يرتبط الشعب كله بالكنائس، ويتحلى دعاة الإسلام بالنقاء والطهر والعفة، بما يمهد لانتشار الإسلام على نطاق واسع، إن شاء الله، في ضوء تلك الأوضاع الكنسية والخلقية المتدهورة في بريطانيا هناك خواء روحي وعطش نفسي، يحتاج الناس لأيدٍ ممتدة حانية، وإجابات عقلية شافية، وعقيدة صافية، وقارب نجاة ينقذهم من طوفان المادية، وانفلات اللادينية، وينجدهم من الشك والضياع والحيرة إلى نور الهدى والأمان.
لقد ذهب رئيس الكنيسة بعاره، ولكن الثقة في الكنيسة قد تحطمت بطريقة غير قابلة للجبر والإصلاح.
___________________________________
(1) Eastham, Welby quits as sex crisis engulfs more senior clergy, The Daily Telegraph, 13/11/2024.
(2) The Roman Catholic Church abuse investigation report, November 2020.
(3) BBC, Catholic Church child sexual abuse scandal, 5/10/2021
(4) National Catholic Reporter, AIDS exacerbates sexual exploitation of nuns, 16/3/2001.
(5) Church of England Research and Statistics unit, Statistics for Mission 2019.
(6) Christian Research, Religious Trends No 7 (2007/2008(.
(7) Wyatt, “Is the UK still a Christian country?” BBC, 25/5/2015.
(8) YouGov, “A quarter of Britons say they believe in ‘a god’,” 29/12/2020
(9) Office of National Statistics, Religion, England and Wales: Census 2021.
(10) BBC News, Christianity ‘almost vanquished in UK’ 6/9/2001.
(11) Gledhill, “Churchgoing on its Knees as Christianity Falls out of Favour”, The Times, 8/5/2008.