إن لتعاقب الليل والنهار والفصول الأربعة حكماً كثيرة ربما لا يفطن إليها البعض أو يتناساها مع شواغل الحياة، ولكن من هذه الأمور التي يجب أن يقف عندها المسلم وقفة جادة للتأمل فيها والاستفادة منها، الحكمة من هذا التعاقب المستمر للكون سواء على مدار اليوم عبر تعاقب الليل والنهار أو على مدار العام عبر تعاقب الفصول الأربعة، وحدوث ذلك بسلاسة منقطعة النظير دون حدوث خلل في هذا النظام أو عقبات طارئة ولو للحظة واحدة.
والمؤمن الحق هو الذي يجعل لنفسه جلسة هادئة من وقت لآخر ليستخرج العظة والعبرة من الكون حوله ومن أحداثه ومجرياته، كما أنه يتأمل كل فكرة وخاطرة تأتي إليه ليصل إلى التذكرة منها، فالله عز وجل لم يخلق شيئًا عبثًا ولا هملًا، ولذلك نرى آيات القرآن الكريم مليئة بالدعوة إلى التفكر والتأمل، كما أنه كثيرًا ما تحدثنا سور القرآن وآيات الله في كتابه عن فكرة الوقت وتعاقبه ومروره، ومن هذه الآيات قول الله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلَا تَسْمَعُونَ {71} قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) (القصص).
ومن هذا التعاقب الذي يحدث في الكون تعاقب فصول السنة الأربعة، وأبرزها تعاقب الصيف والشتاء، وقد جاء ذكرهما في سورة «قريش» حيث قال تعالى: (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ {1} إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ) (قريش)، وقد جعل الله عز وجل من أوصاف عباده أولي الألباب بأنهم يتفكرون في آلائه وآياته في الكون في كل حال وفي أي زمان ومكان، فقال تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ {190} الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (آل عمران).
وبالتزامن مع استمرار فصل الشتاء، فإنه يقع على المسلم أن يفطن للمواعظ التي يأتي بها هذا الفصل ليخبره بها، حيث إن من أبرز ما يميز الشتاء عن غيره من الفصول البرودة الشديدة وتساقط الأمطار وغزارة الرياح وتكاثف السحب، وبسقوط المطر تتهيأ الأرض للحصول على مصدر غذائي يجعلها تستعد للتزين لقدوم فصل الربيع الذي يتميز بأزهاره العطرة وألوانها الزاهية.
ومن أبرز المواعظ التي يخبرنا بها فصل الشتاء عند قدومه، ما يلي:
1- التذكير بزمهرير جهنم:
وذلك مصداقًا لما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عبر ما تركته لنا من ميراث السُّنة النبوية، فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «اشتكت النار إلى ربها، فقالت: يا رب، أكل بعضي بعضًا، فأذن لها بنفَسَين: نفَس في الشتاء، ونفَس في الصيف، فهو أشد ما تجدون من الحر وأشد ما تجدون من الزمهرير» (رواه البخاري).
2- التذكير بنِعَم الله على عباده:
فمن يتأمل سيجد أننا نعيش وسط نِعَم كثيرة ومن أبرزها، حصولنا على الملابس الثقيلة التي تحمينا من برد الشتاء القارس، رغم اختلاف أقمشة هذه الملابس وتنوع تصميماتها وأحجامها ومقاساتها، وهذه واحدة من نِعَم غزيرة أخرى، ومما يدل عليها في كتاب الله قوله تعالى: (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) (النحل: 5).
3- التذكير بعفو الله:
فلما كانت أحد مقاصد هذه الشريعة السمحة حفظ النفس، فقد جاءت الشرائع والأحكام بعفو الله عن عباده في فصل الشتاء عبر مجموعة أحكام ميسرة، منها جواز المسح على الخفين بدلًا من غسل الرجلين، الذي يكون مدته يوماً وليلة للمقيم و3 أيام بلياليهن للمسافر، ومن هذه الأحكام أيضًا جواز التيمم في حالة البرد الشديد بدلًا من الوضوء في حال خاف العبد وقوع الضرر عليه من استعمال الماء البارد، كما أباحت الشريعة الجمع بين الصلاتين في حال سقوط المطر الغزير، وكل ذلك من التيسيرات التي توضح عفو الله عن عباده لما علم من ضعفهم في هذا الفصل.
4- التذكير بكرم الله:
حيث إن من عظيم سعة رحمة الله على عباده أن ضاعف لهم الأجور في هذا الفصل لما يعتريه من شدة البرد، ومن أمثلة ذلك أن جعل الله رفع درجات العبد ومحو خطاياه نتيجة لإسباغ الوضوء على المكاره في هذا الطقس.
5- التذكير بالتقرب لله:
هو فرصة عظيمة لمن أراد التقرب لله سبحانه، حيث إن نهاره قصير لمن أراد الصيام، وليله طويل لمن أراد القيام، وما أعظمها من فرص لا تأتي في غيره من فصول العام، ولذلك بوَّب الإمام الترمذي في كتابه باباً أسماه «ما جاء في الصوم في الشتاء»، ثم ذكر بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «الغنيمة الباردة الصوم في الشتاء».