كان للنبي صلى الله عليه وسلم بعد بعثته أثر بالغ وأهمية عظيمة ومنافع عديدة، فما من أحد إلا انتفع النبي صلى الله عليه وسلم، وإنْ عاداه، فقد وصل النفع به إلى المشركين، واستفاد به أهل الكتاب، وتمسك المسلمون بتعاليمه لحصد المنافع في الدنيا والآخرة، وكان من شأن النبي صلى الله عليه وسلم ما انتفع المشركون بوجوده بعد بعثته، وتمثلت هذه المنافع في صور متعددة، منها:
أولاً: رفع العذاب عن المشركين:
كان مما انتفع به المشركون بالنبي صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل رفع العذاب عنهم، قال جل شأنه: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) (الأنفال: 33)؛ ومعنى هذه الآية: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ يَا مُحَمَّدُ وَبَيْنَ أَظْهُرِهِمْ مُقِيمٌ، حَتَّى أُخْرِجَكَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ؛ لِأَنِّي لَا أُهْلِكُ قَرْيَةً وَفِيهَا نَبِيُّهَا(1).
وقد كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُسْرِفًا عَلَى نَفْسِهِ، لَمْ يَكُنْ يَتَحَرَّجُ، فَلَمَّا أَنْ تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَبِسَ الصُّوفَ وَرَجَعَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ، وَأَظْهَرَ الدِّينَ وَالنُّسُكَ، فَقِيلَ لَهُ: لَوْ فَعَلْتَ هَذَا وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَيٌّ لَفَرِحَ بِكَ، قَالَ: كَانَ لِي أَمَانَانِ، فَمَضَى وَاحِدٌ وَبَقِيَ الْآخَرُ، قَالَ اللَّهُ تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) فَهَذَا أَمَانٌ، وَالثَّانِي: (وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (الأنفال: 33)(2).
فوجود النبي صلى الله عليه وسلم حياً بين المشركين كان من أشد المنافع؛ بل وأعظمها للمشركين، لأنه كان سبباً في رفع عذاب الله تعالى عنهم، فلو لم يكن لهم سوى هذا السبب للإيمان به لكفاهم؛ لكن عنادهم أدّى بهم إلى مواصلة كفرهم بالله تعالى.
ثانياً: منع هلاك المشركين:
كان من السهل أن يدعو النبي صلى الله عليه وسلم على قومه فيستريح مـــن أذاهم، لكنه رفض ذلك، ولو أراد لحقق الله له مراده، فقد قالت السيدة عائشة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشدّ عليك من يوم «أحد؟»، فقال: «لقد لقيت من قومك وكان أشدّ ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال لم يجبني إلى ما أردت أحد، فانطلقت على وجهي وأنا مهموم فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلّتني فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني وقال: إن اللَّه تعالى قد سمع قول قومك لك وما ردّوا عليك وقد بعث إليك ملك الجبال فتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلّم عليّ، ثم قال: يا محمد إن اللَّه قد سمع قول قومك وأنا ملك الجبال قد بعثني اللَّه عز وجل لتأمرني بما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، وإن شئت خسفت بهم الأرض، فقال: النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج اللَّه عز وجل من أصلابهم من يعبد اللَّه عز وجل ولا يشرك به شيئاً»(3).
ثالثاً: إطعام المشركين:
كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعامل بإنسانية مع مخالفيه، فعلى الرغم من معاداة المشركين له وشدة أذيتهم له؛ فإنه صلى الله عليه وسلم كان يقابل إساءتهم بإحسانه وجهلهم بحلمه وشرهم بخيره وضررهم بصبره، ويتضح ذلك في موقفه صلى الله عليه وسلم بعد أن أسلم ثمامة بن أثال ومنع طعام المشركين الذي كان يأتيهم من اليمامة.
فثمامة خرج حتى قدم مكة، فلما سمع به المشركون جاؤوه فقالوا: يا ثمامة، صبوت وتركت دين آبائك، قال: لا أدري ما تقولون، إلا أني أقسمت برب هذه البنية -الكعبة- لا يصل إليكم من اليمامة شيء مما تنتفعون به حتى تتبعوا محمداً عن آخركم، ثم خرج فحبس عنهم ما كان يأتيهم منها من ميرتهم ومنافعهم، فلما أضر بهم كتبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: إن عهدنا بك وأنت تأمر بصلة الرحم، وتحض عليها، وإن ثمامة قد قطع عنا ميرتنا وأضر بنا، فإن رأيت أن تكتب إليه أن يخلي بيننا وبين ميرتنا فافعل، فكتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم: «أن خل بين قومي وبين ميرتهم»(4).
رابعاً: المعاملة الحسنة لأسرى المشركين:
أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإحسان إلى أسرى المشركين الذين وقعوا تحت أيدي المسلمين، فقد فرّق الرسول صلى الله عليه وسلم الأسرى بين أصحابه، وقال: «استوصوا بهم خيراً»(5)، وقد أحسن المسلمون إلى الأسرى إحساناً جعل الأسرى من المشركين يعترفون بهذا الإحسان، بسبب وصية النبي صلى الله عليه وسلم بهم.
فقد كان أبو عزيز بن عمير بن هاشم أخو مصعب بن عمير، في الأسرى، فقال أبو عزيز: مرّ بي أخي مصعب بن عمير ورجل من الأنصار يأسرني، فقال: شد يديك به، فإن أمه ذات متاع لعلها تفديه منك، قال أبو عزيز: فكنت في رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر، فكانوا إذا قدّموا غداءهم وعشاءهم خصّوني بالخبز وأكلوا التمر، لوصية النبي صلى الله عليه وسلم إياهم بنا(6).
وقال أبو العاص بن الربيع: كنت مع رهط من الأنصار جزاهم الله خيراً، كنا إذا تعشينا أو تغدينا آثروني بالخبز وأكلوا التمر، والخبز معهم قليل والتمر زادهم، حتى إن الرجل لتقع في يده الكسرة فيدفعها إليَّ، وكان الوليد بن الوليد بن المغيرة يقول مثل ذلك ويزيد: وكانوا يحملوننا ويمشون(7).
وقد أثنى الله تعالى على المسلمين بإطعامهم الأسرى، ووصَفهم بالبررة، فقد ذكر الله في كتابه صفات كثيرة للأبرار في سورة الإنسان وعدّ منها قوله تعالى: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً {8} إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً) (الإنسان).
خامساً: إعطاء المشركين ما يحتاجون، دون مقابل:
كان المشركون يرغبون في امتلاك متع الدنيا، حتى يُشبِعوا رغباتهم، وكان الخوف يغلب عليهم إن اتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يُحرَموا من ملذات الحياة حتى قالوا: (إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا) (القصص: 57)، وكانت رغباتهم مختلفة، منها: ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مع صفوان بن أمية حين أعار صفوان النبي صلى الله عليه وسلم مائة درع بأداتها، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بحملها إلى حنين، إلى أن رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الجعرانة.
فبينما هو يسير ينظر إلى الغنائم، ومعه صفوان، فجعل ينظر إلى شعب ملأى نعماً وشاء ورعاء، فأدام النظر، والنبي صلى الله عليه وسلم يرمقه، فقال: «أبا وهب، يعجبك هذا؟»، قال: نعم، قال: «هو لك»، فقال: ما طابت نفس أحد بمثل هذا إلا نفس نبي! أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله(8)؛ فإشباع النبي صلى الله عليه وسلم رغبة بعض المشركين دون مقابل أدت به في النهاية إلى الإسلام.
______________________
(1) تفسير الطبري (11/ 157).
(2) تفسير القرطبي (7/ 399).
(3) سبل الهدى والرشاد: الشامي (2/ 579).
(4) الاستيعاب في معرفة الأصحاب: ابن عبد البر (1/ 106).
(5) البداية والنهاية: ابن كثير (5/ 191).
(6) رواه الطبراني (977).
(7) المغازي: الواقدي (3/ 119).
(8) سير أعلام النبلاء: الذهبي (2/ 266).