الإسلام يتعامل مع النفس الإنسانية بطبيعتها التي خلقها الله عز وجل عليها، فيؤكد فيها الصلاح والفلاح، ويهذب منها السقوط والانحراف، وقد يخرج أحد المسلمين عن الطريق المستقيم بحكم ضعفه البشري، ولأجل ذلك قد وضعت الشريعة أحكاماً تعرف بالحدود وبالتعزير ومنها السجن.
وقد كان الأسرى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يربطون في المسجد، وفي الخلافة الراشدة اتخذ عمر رضي الله عنه داراً خاصة للسجن، وأما من وقع في حد من حدود الله فإنه كان يطبق عليه الحد ثم يصرف، إلا إذا كانت هناك جريمة أخرى تستحق التعزير.
وأول من بنى سجناً خاصاً لتوقيع عقوبة السجن في الإسلام، فكان الخليفة عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه في الكوفة بالعراق.
السجن.. بين الأحكام الشرعية والقانون الوضعي
تهدف العقوبة في الإسلام لهدفين رئيسين؛ الأول: إصلاح الفرد، والثاني: حماية المجتمع، وقد وضع الشارع للجرائم الكبرى نظام «الحدود».
ففي حد السرقة قال تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (المائدة: 38)، وفي حد الزنى يقول تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ) (النور: 2)، وفي حد الحرابة يقول تعالى: (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (المائدة: 33).
أما في القوانين الوضعية فيستخدم السجن بغير حدود لمنع الجريمة والنكاية بمن فعلها حتى يصير الأمر أقرب للانتقام منه للتقويم، ليس فيه أي رغبة في إصلاح الفرد بقدر الرغبة في تعذيبه وحجبه عن المجتمع الذي أخطأ في حقه.
دليل مشروعية السجن في القرآن والسُّنة
وردت الآيات الكريمة في كتاب الله تدل على مشروعية السجن، نذكر منها قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا تَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ) (المائدة: 106)؛ قال القرطبي: وهذه الآية أصل في حبس من وجب عليه حق، والحقوق على قسمين، منها ما يصلح استيفاؤه معجلاً، ومنها ما لا يمكن استيفاؤه إلا مؤجلاً.
ويقول تعالى: (وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) (النساء: 9)، فإن عقوبة النساء الزانيات في صدر الإسلام الحبس في البيوت حتى الموت، ولكن الحكم فيما بعد تغير بنزول آية: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ).
وفي السيرة النبوية ما يدل على إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لعقوبة الحبس وتنفيذه لها إذا اقتضى الأمر، فعن أبي هريرة قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلاً قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ما عندك يا ثمامة»، فقال: عندي خير يا محمد، إن تقتل تقتل ذا دم، وأن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل ما شئت، ثم تركه، وتكرر ذلك المشهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات وثمامة يردد مقالته فقال: صلى الله عليه وسلم: «أطلقوا ثمامة»، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله” (متفق عليه).
وقد أجمع الصحابة بمشروعية السجن كعقوبة للمذنب، فيقول الإمام الزيلعي عند استدلاله على مشروعية الحبس: «أما الإجماع فلأن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا عليه(1)، فقد روي أن عمر، وعثمان، وعلياً؛ قد طبقوا الحبس كعقوبة في أكثر من حادثة، فقد روي أن عمر سجن الحطيئة الشاعر لما هجا الزبرقان، وسجن صبيغا لما سأل عن المعضلات في القرآن الكريم، وهو نوع من سجن أصحاب الرأي إذا كان الأمر يؤدي لمفسدة في المجتمع، أو مساساً بعقيدة المسلمين ومحاولة التشكيك بها.
وقد اشترى عمر بن الخطاب داراً بمكة من صفوان بن أمية وجعلها سجناً، وكذلك فعل عثمان إذ سجن صابئ ابن حارث، أحد لصوص بني تميم وقتالهم حتى مات في السجن.
إن السجن بمعناه المعروف لم يكن موجوداً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا في عهد الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وإنما استحدث في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، إذ كان الحبس لا يتعدى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم عن منع المتهم من الاختلاط بغيره من الناس، وذلك بوضعه في بيت أو مسجد وملازمة الخصم أو من ينيبه عنه له(2).
وبما أن الحياة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كانت بسيطة، فلم يتخذ بناء خاصاً للحبس كما كانت عليه الحال في العصور القديمة، وكذلك في عهد الخليفة أبي بكر الصديق، بل كان السجناء يحبسون فيما تيسر من الأماكن كالمسجد أو البيوت أو الخيم، وهناك إحصائية في بعض مباحث الفقه، أن عدد الذين سجنوا في الإسلام لم يتجاوز 20 شخصاً وجميعهم قد أجرموا بشكل واقعي(3).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو لبثت في السجن ما لبث يوسف ثم جاءني الداعي لأجبته»(صحيح البخاري) (4)؛ الداعي؛ أي: أسرعت الإجابة في الخروج من السجن ولما قدمت طلب البراءة، وذلك فيه مشروعية لقبول عفو الظالم والخروج من السجن وإنهاء مأساته طالما أنه لن يغير في قناعته أو سلوكه.
الحكمة من السجن(5)
1- زجر الجاني وتأديبه، فعندما تقيد حرية الجاني بالسجن فإنه يحس بألم هذه العقوبة البليغة، فيرتدع عن الوقوع في المحرمات، والتعدي على حدود الله وحقوق الناس
2- إصلاح الجاني وتهذيبه وتقويمه.
3- يقصد منه أيضاً ردع غيره من الناس.
4- دفع الضرر عن المسلمين.
5- استيفاء الحقوق ممن وجبت عليهم ولم يؤدوها إلى أهلها.
حقوق السجين
يحظى السجين في الإسلام بجملة من الحقوق التي تحفظ عليه كرامته كإنسان في المقام الأول، ثم كمسلم في المقام الثاني، ولا تجتمع على السجين عقوبتان، فالحبس في حد ذاته عقوبة تعزيرية على جريمة قام بها، ولا يجب أن تضاف إليها عقوبة أخرى كالتعذيب على سبيل المثال، أو الحرمان من رؤية أهله وذويه وأصدقائه، ولا تهان كرامته أو يجوع أو يهمل في علاجه إذا احتاج لدواء، فكل هذه الأمور هي مضاعفة للعقوبة تستوجب عقاب السجان أو صاحب الأمر، ومن حقوق السجين:
– الكرامة الإنسانية: الإسلام يقر بكرامة الإنسان كونه خليفة الله في الأرض، وهذا يشمل السجين، يجب عدم التعذيب الجسدي أو النفسي أو الإهانة.
– العدالة: العقوبات في الإسلام محددة بحدود لا يجوز تجاوزها وتُنفذ بما يتناسب مع الجريمة، يقول تعالى: (وَلاَ يُجْرَمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة: 8)(6).
– الغذاء والاحتياجات الأساسية: يُفرض على من يعتني بالسجناء توفير احتياجاتهم الأساسية من الطعام والشراب والملبس، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم لأسرى «بدر» بالإحسان إليهم وإعطائهم الطعام والشراب(7).
– حق التعليم والإصلاح: السجن في الإسلام ليس فقط للمعاقبة، بل هو للإصلاح والتقويم، يمكن للسجين تعلم القرآن، وتحصيل المعرفة إذا أتيحت له الفرصة(8).
– التواصل مع العائلة وزيارتها.
– الحق في أداء العبادات.
– الحق في الدفاع عن النفس وإثبات البراءة.
_________________________
(1) تبين الحقائق شرح كنز الدقائق (4/ 179).
(2) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج14، ص161.
(3) ابن هشام، عبدالملك السيرة النبوية.
(4) #_ftnref9.
(5) المرجع السابق.
(6) أحكام القرآن لابن العربي.
(7) السيرة النبوية لابن هشام.
(8) صحيح البخاري، كتاب السير.