كاتب المدونة: د. محمد وثيق الندوي
إن استعراضًا سريعًا للعالم الإسلامي يظهر المناطق الإسلامية والعربية معرضة للخطر، حيث تتعرض النفوس للهلاك، والأراضي والمزارع للدمار والحرق، والمباني والمنشآت للتدمير والنسف في عدد من بلدان العالمين الإسلامي والعربي، وفي آسيا وأفريقيا، ويُخشى أن يفقد العالم الإسلامي قيمته وثقله، بينما تتدخل القوى الغربية باسم إقرار الأمن وإحلال السلام، ويوفر الأعداء سلاحهم الأطراف المتحاربة، ويكسبون منه ما يقوم به اقتصادهم، ويثيرون الفتن، ويمولون العناصر المشبوهة، ويزودون وكلاءهم بالمال والسلاح كما حدث في العراق، وليبيا، وأفغانستان، واليمن، والسودان، وبنجلاديش، ويرجع ذلك إلى غلبة عناصر التزمت والتطرف في الأفكار والنزعات، وحتى التشدد في المذاهب الفقهية، بالإضافة إلى تسرُّب العناصر الخارجية الهدامة إلى صفوف المسلمين، التي تستخدم الشباب المسلمين لأغراضها وتمسك حبال التحريش بينهم.
قد قامت الثورات العسكرية والشعبية في البلاد الإسلامية والعربية بأسماء مختلفة، من الوحدة والحرية والديموقراطية، والتنمية والرخاء، والأمن، ومكافحة الفساد والظلم، كانت أكثرها في سورية، ولكن هذه الثورات زادت من فرقة العالم الإسلامي، وزادت من تبعيته واعتماده على الغرب وأوروبا، فذهبت النظم المستبدة وقامت نظم جديدة كانت متحررة في الظاهر، ولكن كانت عبيداً للقوى الاستعمارية الغربية أو للمصالح الشخصية.
تحررت سورية من القهر والاستبداد، والاعتداء والاستعباد، والتدمير والتهجير الذي كان يمارسه النظام البعثي منذ عام 1971م حين استولى حافظ الأسد على الحكم في سورية إلى سقوط نظام ابنه بشار الأسد يوم 8 ديسمبر 2024م، فعاش السوريون في هذه الفترة الطويلة تحت ظلم الاستبداد، أمنيًا وثقافيًا وسياسيًا واقتصاديًا، استأثر البعثيون بسائر مناصب الحكم ومواقع النفوذ والتأثير، وأما الشعب السوري فعاش تحت القهر، والعنت، والظلم، والطغيان وفي السجون الجهنمية.
وفي خلال «الربيع العربي»، انطلقت الثورة الشعبية السورية في منتصف مارس 2011م فخرجت مظاهرات في عدة مدن سورية مطالبة بـالحريات وإخراج المعتقلين السياسيين من السجون ورفع حالة الطوارئ، ثم تطورت المظاهرات والاحتجاجات إلى اعتصاماتٍ مفتوحة في الميادين الكبرى ببعض المدن، إلا أنَّ هذه المظاهرات السلمية تعرَّضت للقمع والكبت والاعتداء على أيدي قوات نظام بشار الأسد، مما تسبَّب في هجرة آلاف السكان المحليين ولجوئهم إلى الدول المجاورة، وتسبب في دمار شامل وقتل، حتى ظن الناس ألا مخرج، لا سيما مع بوادر اندماج النظام السوري في المنظومة العربية، في سعي للإبقاء على ما تبقى، ومعالجة القضايا وفق متغيرات الأحداث.
وفجأة، وكأن النصر قد نزل من السماء، ففي عشرة أيام غلبت قوى التحرير بعد ما واجهت المعاناة وإجراءات القمع والكبت والقسوة والاعتداء أكثر من عشر سنوات، يقول المطلعون على مجريات الأمور أن الثوار كانت تساندهم أمريكا و”إسرائيل” وتركيا بما يحتاجون إليه، وقد سكتت إيران وروسيا لمصالحهما السياسية، لأن روسيا متورطة في أوكرانيا وتبحث عن مخرج، وإن إيران تهددها “إسرائيل” بضربها في عقر دارها وتدمير أسلحتها النووية، وفي جانب آخر يوجد صراع بين أمريكا وتركيا، ولكل منهما أهداف معينة مقررة، وما يطبخ في مطابخ السياسة الاستعمارية فلا يعلمه أحد، ويخشى أن يعاد في سورية ما جُرِّب ونُفِّذ في العراق.
فمن السابق لأوانه الحكم القطعي على مسارات الأحداث ومآلاتها، ومن الصعب الاستباق إلى إبداء الرأي اليقيني على ما يؤول إليه الأمر، غير أن هناك مؤشرات إيجابية تسر النفوس، ومخاوف تتماثل مع التجارب المريرة السابقة، والأمل في فهم الشعب السوري للوضع، ووعيه بأخطار المرحلة القادمة، والأمر بيد الله.
وقد ذكر د. معروف الدواليبي الذي شاهد عددًا من الانقلابات العسكرية في سورية والعراق ومصر، في مذكراته التي أعدها د. عبد القدوس أبو صالح أن أحد كبار مؤسسي (CIA) الأمريكية مايلز كوبلاند الذي ألف كتابي «لعبة الأمم» و«لاعب اللعبة» أظهر أنه كان مؤسس الانقلابات التي وقعت في سورية والعراق ومصر إذ قال بصراحة: «كنت مستشارًا لحسني الزعيم، ثم مستشارًا لأديب الشيشكلي، ثم مستشارًا لعبد الناصر، فما من انقلاب من تلك الانقلابات حدث إلا وعليه بصمات الأجنبي».
فما حصاد الثورات والانقلابات العسكرية والشعبية؟ حصادها أن البلدان التي وقعت فيها الثورات، قد تعرضت للتدمير والتشريد، والقلق النفسي، وتحولت مزارع ومصانع إلى مسارح حرب، ومقابر جماعية، فقد كان حصاد الثورات الأخيرة خسائر جسيمة في الأرواح والممتلكات فاقت الحسبان.
ولم يبق مجال للشك في أن النظم التي سادت منذ غلبة الغرب، لم تكن إلا ستارًا للاستعمار، وأن النظم السياسية والاقتصادية والفلسفات الاجتماعية المستوردة من الغرب لم تزد العالم الإسلامي إلا تشتُّتاً وتمزُّقاً وتبعية، وما يشاهد اليوم من تمزُّق وتضارُب فكري وتبعية، يرجع إلى الاستعمار الغربي الفكري والسياسي.
وقد قوَّى هذا الشعور ما وقع في لبنان من مذابح في السبعينيات والثمانينيات من القرن المنصرم، ومأساة شبرا وشاتيلا في فلسطين عام 1982م، وما وقع في أفغانستان والعراق في أعقاب أحداث 9/ 11، وما يقع حاليًا في غزة من قتل وتدمير وإحراق وتهجير وتجويع وعمليات بربرية ووحشية منذ أكثر من 440 يوماً للبربرية التي تذهل العقول، وتجمد العواطف والشعور، وتدع الإنسان في ارتباك، فلا يهدأ باله من هول ما يمارسه الصهاينة من أعمال وحشية واعتداءات همجية تهز كيانه.
إن القيادة السياسية الجديدة التي تتشكل في سورية التي قامت فيها الثورة، وسيأتي إلى الوجود نظام سياسي جديد، يجب أن يستفيد من تجربة الثورات في العهد الماضي، فإن تجربة الثورات في العالم الإسلامي والعربي وآسيا وإفريقيا، لا تبعث على التفاؤل والاستبشار، وقد خسر العالم الإسلامي في الماضي في الثورات العسكرية والنظم الديموقراطية الغربية، كثيراً من الإرادة، والأراضي، والقيم الوطنية، والثقة بالنفس والذاتية، ولا تحل الأزمات المعاصرة إلا عودة الإرادة، والقيم الوطنية، والولاء لدين ومعتقدات ومشاعر الأغلبية، والذاتية والتضامن كما أشار إلى ذلك محمد واضح رشيد الحسني الندوي في مقال له.
وقد أثبتت الأحداث التي حدثت في الربيع العربي أن الحركات الانقلابية في سائر هذه البلدان كانت بغير قيادة وبدون خطة مدبرة، وإنما كانت سورة غضب، ولم تكن ثورة، فإن الثورة تقوم تحت قيادة، فيها خطة وأهداف معينة، وبرنامج للإصلاح، وإزالة سخط الشعب وشكاويه، فقد وقعت هذه الثورات كانفجار البركان، وهدأت الأوضاع في بعض البلدان، حيث تولى بعض الزعماء الحكم كنظام بديل بوعود الإصلاح ومعالجة شكاوى الشعب، وفي بعض البلدان يستمر الصراع.
وقد حان الوقت لأن تزول الحواجز بين الشعوب والحكام، ويتكاتف الجانبان، وأن يسود الوعي الذي ظهرت تباشيره في الجماهير، على عقول الذين يتولون الحكم كذلك، وأن يعرفوا أصدقاءهم وأعداءهم الحقيقيين، فقد سقطت سائر التكايا في غزة التي تتعرض للإرهاب الصهيوني والعدوان “الإسرائيلي”، ورفعت الأقنعة عن الدول الكبرى التي تلجأ إليها الحكومات، وسقطت سائر المناهج والفلسفات، وفشلت سائر الوسائل، ولم يبق أمام الشعوب والحكومات الإسلامية والعربية، بديل إلا العودة إلى الأصالة والذاتية، والوحدة والتضامن وإلا سيكون مصير كل بلد مصير الأمم البائدة.