انكب الدارسون الأجانب والمستشرقون على دراسة اللهجات العامية وتدوين ألفاظها منذ زمن بعيد، إذ تعود المحاولات الأولى للتدوين باللهجة العامية إلى القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي، كما يرجح محمد بن شريفة، حين وضع الراهب القطلاني ريموند مارتين معجماً عربياً لاتينياً وآخر لاتينياً عربياً حسب لهجة العامة الأندلسية.
تشير البدايات الأولى للتدوين باللهجات العامية والاهتمام بها إلى الصلات التي تجمع بينها وبين التبشير ثم الاستعمار، ذلك أن الراهب مارتين، وهو من مؤسسي الاستشراق الأوروبي، تعلم العربية لأجل تنصير المسلمين في الأندلس والمغرب وليحاجج علماءهم، وهناك مناظرة أوردتها المصادر جرت بينه وبين ابن رشيق العالم والأديب الأندلسي، وجاء في أثره رهبان آخرون إذ وضع الراهب بدرو دي ألكالا في نهاية القرن التاسع الهجري/ الخامس عشر الميلادي معجماً في العامية الأندلسية أيضاً تمثل لهجة أهل غرناطة، وهو كسابقه وضع لأجل الاستعانة به في تنصير المسلمين.
نشطت الدعوة إلى العامية في ظل الاستعمار وتبلور هذا النشاط في مظهرين:
الأول: تدريس اللهجات العامية في الجامعات ومراكز البحث الغربية، وفي هذا السياق تم تدريس اللهجات الشرقية المختلفة في الجامعات، بل وأنشئت مدارس خاصة لدراستها مثل «مدرسة باريس للغات الشرقية الحية»، و«مكتب برلين لتدريس اللغات الشرقية»، واستعانوا في ذلك بنفر من العرب، مثل: أحمد فارس الشدياق، وميخائيل صباغ، ومحمد عياد الطنطاوي، والمستشرقين الذين كانت لهم معرفة باللهجات المحلية مثل سلفستر دي ساسي، وهوداس.
الثاني: التأليف في اللهجات العامية، ويعود هذا الاتجاه إلى القرن الثامن عشر حيث وضع دي سفاري كتابه «أصول اللغة العربية العامية والفصحى» باللغة اللاتينية وقدمه إلى الحكومة الفرنسية عام 1784م، وقد تم نشره بعد وفاته عام 1813م، وتوالت من بعده الكتابات من مثل «الرسالة التامة في كلام العامة» لميخائيل صباغ المنشورة عام 1886م.
وفي الوقت ذاته جرت محاولات لبعث اللهجات العامية في معظم البلدان العربية على يد المستشرقين من أمثال: المستشرق الأمريكي فسك في كتابه «قواعد باللغة المصرية العامية»، وهو محاولة لكتابة اللغة العامية بحروف أوروبية وعنوانها باللغة العامية نصه «أجرومية مصري مكتوبة بل لسان المصري ومعها أمسلة»، وفيشر الذي كتب «ثلاث مقالات في اللهجات العامية 1898-1899م»، وإيمانويل ماتسون في كتابه «لغة بيروت العامية 1911م»، وبرجستراشر في «عامية دمشق 1924م»، وكلها ظهرت في ذروة المد الاستعماري مما يطرح التساؤلات حول علاقتها بالمشروع الإمبريالي، وحول مدى علمية وحيادية هذه المصنفات.
ومن خلال هذه المصنفات تم الترويج للادعاءات الرئيسة التي وجهت للغة العربية، وهي:
– اتهام العربية بأنها لغة غازية جاءت لتقضي على اللهجات المحلية السائدة عند دخول الإسلام مثل القبطية والأمازيغية.
– الإشعار بصعوبة العربية واتهام قواعدها بأنها عصية على الفهم وتراكيبها اللغوية بأنها شاقة.
– الإعلاء من قيمة العامية والإيهام بأهميتها كلغة حية جديرة بأن تكون لغة تواصل.
– اتهام العربية بالكلاسيكية، وأنها لغة تنتمي إلى الماضي مثل اليونانية واللاتينية، وهي لغات لم يعد لها وجود في عالم اليوم لعجزها عن مواكبة المتغيرات.
– الادعاء أن العامية تصلح لغة للكتابة والبحث، إذا ما تم ضبط قواعدها واستخدمت في الأدب.
– الادعاء أن العامية لن تؤثر على أداء الشعائر الدينية، فالصلوات والشعائر سوف تؤدى باللغة العربية.
وجدت هذه الادعاءات صدى لدى البعض، إذ أخذت في الظهور دوريات وصحف محلية ناطقة بالعامية مثل «أبو نظارة» ليعقوب صنوع، وظهرت دعاوى استبدال اللاتينية في الكتابة بالحروف العربية، ومؤخراً ظهرت منصات إعلامية مثل «ويكيبيديا مصري»، و«ويكيبيديا المغربية» تعتمد اللهجات المحلية عوضاً عن الفصحى.
وبعيداً عن هذه الادعاءات التي فندها كثيرون مثل مصطفى صادق الرافعي، ومحمود شاكر، وعمر فروخ، فإن السؤال الذي ينبغي أن يطرح: هل العامية تصلح لأن تكون لغة للبحث والكتابة ولغة للتعليم في المدارس، والجواب هو النفي لدواع كثيرة، منها:
– وجود عاميات وليس عامية واحدة داخل كل قُطْر، فنحن في الواقع أمام زخم من العاميات وليس عامية واحدة يمكن اعتمادها وتصلح لأن يفهمها ويتعامل بها جميع الأفراد في القُطر الواحد، وعلى سبيل المثال في مصر تختلف عامية أهل الصعيد في الجنوب عن عامية أهل الشمال، كما يختلف الجهاز المفاهيمي للقبائل العربية في سيناء عن الجهاز المفاهيمي لأهل النوبة.
وفي المملكة المغربية، نجد الأمر ذاته تتباين عامية الشمال عن الجنوب والشرق عن الغرب، وحتى ضمن الأمازيغية هناك لهجات تختلف فيما بينها إلى درجة يصعب معها التواصل نسبياً بين الأمازيغ أنفسهم، ونفس الأمر لدى قبائل الطوارق التي تنتشر في شمال وغرب أفريقيا؛ حيث تسود اللغة الطارقية، وهي لغة خاصة تندرج تحتها عدة لهجات مثل التماشق والتماجق والتماهق، وهي لهجات يتباين استخدامها من قبيلة إلى أخرى.
– العامية عصية على التقعيد: أسلفنا أنه وجدت عشرات المحاولات منذ ما يزيد على القرنين لأجل تقعيد العامية، وقام بها باحثون مستشرقون مرموقون ولم تثمر تلك الجهود من الناحية الواقعية شيئاً ذا بال؛ لأن اللهجات العامية لا تنضبط بقواعد وتسير بلا حواجز من نحو أو صرف، وهو ما يجعل اعتمادها كلغة للدرس والبحث أمراً متعذراً.
– الانعزال الثقافي، يؤدي اعتماد العامية عوضاً عن الفصحى إلى الانعزال والتقوقع الثقافي، فكيف يستطيع القارئ غير الأمازيغي فهم اللغة الأمازيغية؟! وكيف يمكن فهم اللغة الطارقية التي يتحدث بها قبائل الطوارق؟! وفي المقابل تعد الفصحى لغة جامعة يستطيع قراءتها والتحدث بها وفهمها سكان المنطقة العربية، وهي آصرة تجمع بينهم لا بديل لها.
– محدودية العامية، تتسم العامية بالفقر في المفردات وعدم وجود نظام كتابي، وهو ما يمنعها من استيعاب الإنتاج العلمي والأدبي، فهي مضطربة كل الاضطراب في أساليبها وقواعدها ومعاني ألفاظها؛ ولذا فهي لا تقوى على التعبير عن المعاني الدقيقة التي يحتاجها البحث العلمي.
وبالجملة، بذل المستشرقون جهوداً مضنية لضبط وتقعيد العامية لتحل محل الفصحى، ولم تثمر هذه الجهود عن شيء ذي بال رغم الاعتراف أن الفصحى تواجه صعوبات إذ تحتاج إلى استحداث مصطلحات جديدة لتواكب المتغيرات التي فرضتها وسائل التواصل الاجتماعي حتى تستطيع أداء وظائفها في المجتمع.