ترتبط بداية كل عام ونهايته من ضمن ما ترتبط بـ«وقفة محاسبة النفس» الشهيرة، والفكرة في ذاتها طيبة لا شك، بل المرجوّ من المسلم أن يكون هذا ديدنه دوريًّا إن لم يكن يوميًّا! وعلى ذلك، تعود هذه الوقفة بعكس المراد منها عادة، فبدل أن تكون دافعًا للتقويم والتجويد، والتوبة والتجديد، تكون محطة للتحسر على ما فات والتوجس مما هو آتٍ، ولهذا أسباب عديدة، أهمها سوء أو حتى انعدام تعريف المرء لنفسه ما يعنيه له النجاح في الحياة، وتصوّر الجدية والإنجاز والأهداف تصورات مستوردة من موارد التنمية البشرية وما شاكلها مما يحجّر الناس في قوالب من لم يوافقها فهو من الخاسرين!
فعندما يكون الكلام على النجاح والطموح والجدية في الحياة، تستحضر الأذهان غالبًا تصورات نموذجية مما ورد في مواد ما يسمّى التنمية البشرية وقصص العظماء والناجحين، مثل الاستيقاظ مبكرًا والنوم مبكرًا، وممارسة الرياضة، والنظام الغذائي الصحي، وساعات محددة لمشاهدة التلفاز أو «يوتيوب» (إذا وجدت).. إلخ، دوام النشاط والحيوية وغلبة العزم والمثابرة وندرة أو انعدام الخمول والكسل وعادات اللهو وتضييع الأوقات.. إلخ.
والحق أن المسألة أبسط من ذلك التصور، وأعمق!
أترى إلى ذلك الموظف القابع على مكتبه، يُنهي الوظيفة المطلوبة منه على وجهها دون زيادة ويكون أول المسارعين لباب الخروج عند انتهاء الدوام بالدقيقة؟
ثم انظر لزميله ذاك النجم الاجتماعي، الذي يبذل طاقات جَمَّة فوق المطلوب وظيفيًا، لأنه متطلع للترقي مهنيًّا.
والآن لنعد لصاحِبَيْنا بعد عام أو عامين، الأول حيث هو، والثاني ترقّى وصار مدير الأول!
هل نشأ في نفسك حُكم بالنجاح أو الفشل على كل منهما؟
لعلك تُحابي النموذج الثاني البرّاق على الأول التقليدي؟
حسنًا، تمهل قليلًا، وتعال معي بعد انتهاء الدوام.
الموظف التقليدي يعود لمنزله مستقبلًا أهله ببشاشة، فيصلي ويتغدى معهم غداء صاخبًا مقارنة باستراحته المنعزلة في العمل، أطفاله يشاركونه تفاصيل يومهم وهو يناقشهم، ثم يخلو بزوجِه ويتمتّعان، ثم يخرج للصلاة، ويُتِم تسميع جزء القرآن على شيخه المُجيز له بقراءة وَرْش بعد أن أتمَّ قراءة حفص، ثم ينصرف لمسامرة الأصحاب في مجلس ذكر أو سَمَر مشروع، وينقلب وسطهم من موظّف المَكَنَة لأنيس الجَلسة، ثم له أوقات دوريّة في الأسبوع يتطوع فيها لخدمة فئة محتاجة بمهاراته.
ما رأيك؟ فجأة، لم يعد هذا التقليدي بذاك الفشل المبدئي، أليس كذلك؟!
طيب، دونك الآخر، النجم الاجتماعي!
يعود لمنزله مرهقًا، فيُسلِّم على والِدَيْه (لم يتزوج بعد لأن طموحه لا يتحمل منافسة بذلك الثِّقَل)، وقد اشترى ما طلبته منه والدته، وتذكّر شراء حلوى والده المفضلة، فيشكرانه ويحييهم، ثم يجرّ نفسه جرًّا لفراشه فيرتمي عليه، يصحو متأخرًا وأهل البيت نيام، فيأكل من الطعام المتروك له في المطبخ، ويُعدّ الأعمال الإضافية لتقديمهــا في الغد (ليست مطلوبة وظيفيًّا لكنها ثمن تطلّعه المهني للترقّي في مجاله)، ثم يصلي الفجر ويقرأ أوراده، ويترك لوالديه تحية الصباح في ورقة على باب الثلاجة، لينطلق بعدها لعمله.
هل بدأ بريق هذا النموذج الناجح يَخفُت عن ذي قبل؟!
إذا صارت كِفّة حُكمك تميل للأول على الثاني، فقد جانبك الصواب في هذه أيضًا!
الصواب أنّه ليس ثَمة صواب أو خطأ في هذين النموذجين، وما بينهما، بل هي موازنات ارتضاها أصحابها من أنفسهم في الحياة ومن الحياة في أنفسهم.
ولستَ مطالبًا أو مدعوًّا حتى للحكم على أيهما أو الميل لأحدهما! وإنما أنت مَدعوُّ للنظر في هذين النموذجين من حيث تعريف كل منهما لمعنى النجاح المُرتضى عنده، وترتيبه لأولوياته وأشغاله وِفاقًا، وارتضاء دفع ثمن تحقيقهم من جهده ووقته وسنوات عمره على المدى، لأنه ارتضى في المقابل مردودها المعنويّ والمادّي.
واصطلاح «دفع الثمن» ليس تهديدًا بالخسارة، بل هو تقرير لواقع، فأيّة موازنة في الحياة لها ميزانها أخذًا وعطاء، ولا أحد تكتمل له المحاسن كلها أو تجتمع عليه المساوئ جميعها، وإنما الشأنُ في ارتضاء موازنة ما، وتحمّل مسؤولية مُعطياتها، والرضا بما قُسِم في مردودها، فإذا كان تعريفك -مثلًا- لصلتك بوالديك تحية الصباح على الثلاجة والمساء في السرير، فأنتَ وشأنك، إذا شئتَ تعريفًا أرضى عندك فابذل له.
وإذا كنت ترتضي –مثلًا- أن تقيم الفرائض وتجتنب المحرمات ثم ترتمي فيما بينهما على الأرائك أمام التلفاز أو تقلب في وسائل التواصل، فأنت وشأنك، وإذا كان من أولوياتك في الحياة أن تكسب من المال ما يوفر لك مستوى معيشة جيداً، وتكدح لأجل ذلك في عدد من الوظائف أو ساعات عمل طويلة، فأنت وشأنك، وإذا كانت أولويتك في بذل أقل جهد ووقت ممكن لتوفير دخل معيشي يستر الحال ثم تنفق فاضل وقتك وعافيتك في أعمال خيرية أو أهواء شخصية، فأنت وشأنك.
المهم في المسألة كلها أن تواجه نفسك مواجهة صادقة، فتقرر ما ترتضي ولا ترتضي ثم تتسق مع قرارك، المطلوب أن تحيا حياة ترضاها لنفسك وترتضي عاقبتها والحساب عليها يوم تقوم لرب العالمين، بكل ما تفعل ولا تفعل فيها، وبكل من أنت ومن لست أنت فيها، فالمطلوب من كل فرد مسؤول أن يصوغ لنفسه نمط الحياة التي يرتضي الحساب عليها والجواب بها أمام الله تعالى.
لكنك حين تسير في الحياة كيفما اتفق دون أن تبذل جهدًا في صوغ وتعريف وتحديد ما ترتضي تحمّل مسؤوليته حقًا، ستشعر آخر المطاف كمن حزم أمتعته لرحلة صيفية وانتهى به المطاف في القطب الشمالي! أو كمن عاش عمرًا دون أن يحيا حياة!
إنك تَدفعُ مِن عمرك لعُمرانك، وتنفق من أنفاسك لنَفْسِك، وتُقدِّم من دنياك لأُخراك، وتُبعَث وحدك، وتُحاسَب وحدك، فواجِه نفسكَ بصدق في تعريف حياتك ومعاني حياتك، وفي الثمن الذي ستبذله جادًّا فيما تريد طلبه أو تركه فعلًا، وفي الكيفية التي ستوازن بها كفوف اهتماماتك ووجهات طاقاتك وأطوار طباعك، متنزّهًا عن أوهام انفصام الدين والدنيا، ومتحرّرًا من عقدة المقارنات المحمومة والقوالب الجامدة والتصنيفات الجائرة للقمّة والقاع والنجاح والفشل والطموح والهمود.. إلخ.
إما أن تفصّل تطلعاتك في حياتك على مقاس طاقاتك، أو تربي طاقاتك على قدر تطلعاتك في حياتك، أو تظل متنقّلًا بين هذا وذاك حتى تستقيم على طريق، وإنك إذا كنت تحيا حياة تعلم أنك محاسب عنها، يتبقى عليك أن تحيا حياة تتهيأ للمحاسبة عنها بكل ما أنت عليه، وما لست عليه، بكل ما تأتيه وما تهجُرُه.
وإنّ مفتاح الحياة الهانئة ليس في النجاح ولا الترقي ولا الشهرة ولا كثرة المال والأولاد والأهل والأصحاب.. إنما مفتاحها أن تكونَ صادقًا مع نفسك، مسؤولًا عن حياتك؛ وأن تَكُفَّ عن مَدِّ عينيك لحيوات الآخرين، وإرهاق نفسك بالمقارنة بموازينهم التي ارتضوها لأنفسهم أو اتّبعوها بأنفسهم، ولَسْعِ حياتك بزفرات الحسرة واللو والليت!