يدق المفكر الإسلامي والخبير اللغوي أ.د. محمد داود، الأستاذ بجامعة قناة السويس، عضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة، يدق ناقوس الخطر بقوة من تهاون أبناء اللغة العربية فيها وولعهم وشغفهم باللغات الأجنبية، بلا ضوابط، وفق عقلية «المغلوب حضارياً»، في حين نجح الصهاينة في إحياء لغتهم العبرية من الموات.
«المجتمع» التقت بالعالم الجليل على مائدة الحوار، بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية.
تؤكدون أن اللغة لصيقة بالإنسان من المهد إلى اللحد، لأنها أشبه ما تكون بالروح، نود أن توضح أهمية اللغة العربية لمن يتنكرون لها أو يحاولون الانتقاص من قيمتها؟
– يؤكد علماء اللغويات أن اللغة وعاء ثلاثية الدين والثقافة والعلم، فضلاً عن كونها سجل تاريخنا وحضارتنا، وبها نفكر ونتواصل في حياتنا اليومية، ونطلع من خلالها على ماضينا ونستشرف بها مستقبلنا، وتقترن قوتها أو ضعفها بحالة أبنائها، والعلاقة وثيقة جداً بحالة الناطقين بها، فهي تكون حية في ظل قوم أقوياء لهم إسهام في العلم والإبداع.
هل يمكن بعث اللغة من جديد لتعود إلى القوة والسيادة؟
رغم صعوبة هذا الأمر، فإنه ليس مستحيلاً إذا تحول أصحاب هذه اللغة من الضعف إلى القوة، ويشهد التاريخ كم من اللغات التي أصابها الضعف بعد القوة، وكم من لغات اختفت حينًا من الدهر حتى إنه لم يعد لها ذكر ولا وجود بسبب اختفاء أهلها عن القوة والتأثير الحضاري، ثم سرعان ما ظهرت وبعثت وقويت بين اللغات لعودة أهلها إلى القوة والتمكين، وأبرز مثال على ذلك اللغة العبرية التي تم إحياؤها من موات.
منذ سنوات حذر تقرير لـ«يونسكو» بأن العربية من اللغات المعرضة للانقراض مستقبلاً كغيرها، فما ردكم على هذا التقرير الدولي؟
– حالة لغتنا من حالة أمتنا، قد تضعف وتحتضر في فترة تاريخية معينة لضعف وهوان أبنائها في فترات «غثاء السيل»، إلا أنها لن تموت أبداً حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
إنني أؤكد أنه رغم أنف «يونسكو»، فإن لغتنا العربية كتب الله لها الخلود بأن جعلها لغة القرآن المجيد الذي تكفل الله بحفظه؛ (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر: 9)، وقد خصها الله بصفات من الكمال والجمال والجلال ما لم يختص به غيرها من اللغات، فكم من اللغات اندثرت أو اختفت أو ماتت وبقيت اللغة العربية خالدة عبر التاريخ تضعف وتقوى حسب الحالة الحضارية لقومها، فهي كائن حي يرتبط في صحته ومرضه بواقع الأمة الحضاري.
وقد جعلها القرآن الكريم لغة حية على ألسنة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وقد حقق لها القرآن حالة الاستقرار اللغوي؛ فلا يمكن أن تتحول إلى لغات جديدة في إطار ما يطلق عليه «التطور اللغوي» الذي يصاحبه التحريف والتحول والاندثار والانقراض، وهي ظاهرة لغوية تاريخية معروفة، ومن جميل ما فجره القرآن الكريم في علوم العربية أنه أدى لإنشاء أكثر من ستين علماً لخدمة القرآن الكريم، وهذا ما بينه الإمام السيوطي في «الإتقان».
تؤكدون أن هناك مؤامرات على شعوبنا العربية حتى يعيشوا في حالة اغتراب لغوي، فما مؤشرات ودلائل ذلك؟
– يبدأ ذلك من تقليل اعتزاز العربي بلغته، والإحساس بما قاله ابن خلدون في الفصل الثالث والعشرين من «مقدمته»: «المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده».
ولهذا، نجد هؤلاء المغلوبين يُدخلون كلمات أجنبية في حديثهم بمناسبة وبدون مناسبة كنوع من التعبير عن التحضر، حتى وصل الأمر إلى أن كثيراً من العامة الذين لا يجيدون أي لغة -حتى العربية- يحاولون التقليد الأعمى ولو بالنطق الخاطئ.
ويزيد الطين بلة أن نجد وسائل التعليم والإعلام والثقافة تدعم هذا الاتجاه في الإحساس بالنقص والعجز اللغوي، وتكرس هذا الواقع الاجتماعي بأننا نجد أسماء كثير من المحلات والمنتجات والشركات والمباني تحمل أسماء أجنبية أو مسخ لغوي لكلمات عربية بحروف أجنبية.
ولأن أجيالنا مستهدفة، نجد إحساس الأسر بالفخر والفرحة حين ينطلق أطفالها منذ بداية نطقهم بالكلمات الأجنبية وأطلقنا عليه نحن رسمياً «kg1- kg2»، وغيرها من وسائل الاغتراب اللغوي، لدرجة أننا نجد أن الطفل ينطلق لسانه باللغات الأجنبية ويتلعثم بل ويعجز عن نطق جمل عربية صحيحة.
أما الشباب، فقد تم غزو فكرهم ولسانهم باللغات الأجنبية و«الفرانكو أراب» التي هي عبارة عن عملية مسخ لغوي بالنطق بلسان عربي، والكتابة للكلمات العربية المنطوقة بحروف أجنبية، فضلاً عن أن من يجيد اللغات الأجنبية يجد فرص عمل أفضل وبمرتبات أعلى مما يؤدي لانتشار البطالة بين من يجيدون العربية، فهذه مجرد نماذج لمحاولات تغريب الفكر واحتلال العقل؛ لأن اللغة وعاء الفكر، ما خلق نوعاً من الاغتراب الداخلي في نسيج حياتنا الثقافية والاجتماعية المعاصرة.
أليست هناك توصيات للمجامع اللغوية والعربية وقوانين كافية لحماية لغتنا من هذا الاغتراب بين أهلها؟
– ستظل التوصيات حبيسة الأدراج ومجرد أبحاث علمية، دون وجود إرادة سياسية عربية في تقوية وحماية اللغة وعلاجها من عوامل ضعفها، فقوة أو ضعف اللغة لا يحدث عشوائياً، بل يجري وفق نواميس كونية، وسنن لغوية تتمثل في عوامل وأسباب القوة والسيادة، كاعتلاء أهل اللغة مراكز سيادية في التقدم العلمي والاقتصادي والسياسي، وغير ذلك، ولهذا نطالب بتفعيل ما توصلت إليه المجامع اللغوية من خلال إستراتيجية عربية شاملة تحت مظلة جامعة الدول العربية لتقوية وحماية اللغة العربية، وهذا الأمر ليس مستحيلاً إذا توافرت الإرادة، فغيرنا أعاد لغتها للحياة ولانتشار بعد الموت والاندثار، فهل نحن أقل منهم؟!
ما مراحل ومظاهر الانقراض أو الموت اللغوي؟
– موت اللغة لا يكون عشوائياً، وإنما يبدأ بضعف وهوان أهلها، ويستمر هذا التدهور حتى الموت الذي قد يكون طبيعياً نتيجة الشيخوخة، وقد يكون موتها قتلاً نتيجة الغزو الخارجي واستسلام أهلها لقوة الغازي، وقد يكون موتها نتيجة «التسمم اللغوي» باقتحام كلمات دخيلة لها لتحل كلماتها تدريجياً محلها.
وهناك لغات اندثرت لفناء أهلها كاللغات الهيروغليفية والفينيقية والسريانية، فهناك صراع اللغات، ومراحل حياة اللغة كالإنسان تبدأ بطفولة ضعيفة كالطفل، ثم تنمو لتدخل مرحلة الشباب، وما يصاحبها من ترحال وسفر واحتكاك بالآخرين، ثم الاستقرار والتطور، ثم يكتب لها البقاء أو الانقراض بقدرتها على التكيف والتأقلم والتصارع مع اللغات الأخرى، وفي النهاية البقاء للأقوى.
يرى الباحثون اللغويون أنه على مدار التاريخ، كان هناك أكثر من 30 ألف لغة وُلِدَت واختفت خلال 5 آلاف سنة، وأكثر فترات الانقراض اللغوي كانت في المرحلة الاستعمارية الأوروبية تحديدًا، ويتوقع اللغويون أن يفقد العالم خلال القرن الحالي نصف تراثه اللِّساني.
ألا ترون أن هذا فيه نوع من المبالغة والتشاؤم؟
– هذا ليس كلامي، وإنما اجتهادات علماء اللغة فيما يطلق عليه «أطلس اللغات العالمية المُهدَّدة بخطر الانقراض»، ونشرته «يونسكو»، وقد حذروا فيه من أوضاع قرابة 2300 لغة تواجه خطر الانقراض، منها أكثر من 500 مُهدَّدة بدرجة خطيرة، وستختفي خلال سنوات قليلة؛ لأنه لا يتحدث بها سوى قلة من كبار السن، وتبرأت منها الأجيال الجديدة وغالبيتها في قارتي آسيا وأفريقيا، حيث يصل عدد اللغات المحلية الشفوية غير المكتوبة قرابة 80% من لغاتها؛ مما يجعلها عرضة للانقراض.
حذرتم من ظاهرة «موت اللغة» بأشكال مختلفة، هل يمكن عرض مزيد من التفصيل حول أشكال موتها ونماذج فعلية حدثت؟
– قسَّم علماء اللغة ظاهرة موتها بأنه يتم في 3 أشكال مختلفة، أولها: «الموت الطبيعي» لوصولها لمرحلة الشيخوخة والضعف التام وذوبان أبنائها في لغات غيرهم وتباعد مواطنهم في حضارات أخرى، وبمرور الأجيال تندثر اللغة الأم مثل اللغة السنسكريتية والفارسية القديمة واللاتينية.
الشكل الثاني: «الموت بالقتل»، وغالباً ما يكون بغزو مسلح لغزاة أكثر عددًا من أهل تلك اللغة وباستقرار الغزاة في الموطن المحتل وتسود لغتهم التي تكون أَشبه بطوفان يبتلع لغة الشعب الأصلي، وأبرزها غزو الساميين القدماء للعراق، ولكن الغريب والنادر موت لغة الغازي في حالة التقارب العددي بين الغزاة والأصليين، ولكن الغزاة أقل درجة حضارية ممن تم غزوهم، فهنا يفقد الغزاة لغتهم وتنتصر لغة المُنهزمين، ونموذج ذلك عندما قامت القبائل البربرية بغزو أوروبا اللاتينية الأكثر تقدُّماً حضارياً؛ ما أدى لترك البرابرة لغاتهم بل وأديانهم الوثنية، فتحدثوا باللاتينية واعتنقوا المسيحية، ونفس الوضع مع التتار بعد سيطرتهم على غالبية العالم الإسلامي اعتنقوا الإسلام وتعلموا العربية، أما إذا كان الغزاة أكثر تحضراً، فإنهم غالباً ما يقتلون لغات الآخرين مثلما فعل الاستعمار الأوروبي في غالبية الدول التي احتلوها في مختلف قارات العالم.
والشكل الثالث: «الموت اللغوي بالتسمم»؛ حيث تتسرب الكلمات الدخيلة من اللغات الأخرى ويتقبلها الآخرون دون مقاومة، وسرعان ما تسقط اللغة الأم وتسيطر الألفاظ الدخيلة، وهكذا ماتت اللغة السريانية في الشام، وتسربت كثير من كلمات العربية في العديد من البلاد التي فتحها العرب بعد الإسلام.