ربما يمكننا القول: إنه ما من أحد في بلادنا إلا ولديه ارتياب ويتملّكه شعور شديد السلبية تجاه مصطلح «الصهيونية»، وكل ما يتعلق به، ومع هذا تظل هناك حاجة لمزيد من الضوء على جذور الحركة الصهيونية، وتشعباتها، ومآربها، وتحالفاتها، ونقاط تمركزها الرئيسة.. إلخ.
أولاً: جذور الحركة الصهيونية وبداياتها:
بداية، فإن مصطلح «الصهيونية» مأخوذ أو مشتق من الاسم «صهيون»، وهو واحد من الأسماء التي أُطلقت على جبل صهيون، الذي يُعدّ الأقرب إلى مكان «الهيكل» المزعوم في القدس، وفي هذا السياق تشير كلمة «صهيون» إلى «أرض الميعاد»، وضرورة عودة جميع اليهود من مختلف بقاع العالم إليها.
يعود اشتقاق المصطلح بمعانيه وأبعاده السياسية هذه إلى المفكر اليهودي نيثان بيرنباوم، حيث كان أول من بادر إلى استعماله بهذا المفهوم الحديث، وذلك في مقال له نُشر بالألمانية عام 1890م، تحت عنوان «Selbstmanzipation» (التحرر الذاتي)، وقد صاغ هذا المصطلح لتمييز الحركة الصهيونية، التي كانت مجرد فكرة أو دعوة في ذاك الحين، عن حركة أخرى ظهرت في نفس المرحلة بذات التوجه، وعُرفت آنذاك باسم «أحباء صهيون».
تأسست الحركة الصهيونية الممتدة والمتشعبة والمتوغلة حتى يومنا، على يد مجموعة من اليهود على رأسهم تيودور هرتزل، وهو صحفي يهودي نمساوي، وذلك في مؤتمر عقدوه في مدينة بازل السويسرية عام 1897م، وكان أهم أهدافهم المعلنة إنشاء وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، وإعادة يهود العالم للعيش في كنفه!
على أنه يجب أن يكون معلوماً أن هذه الحركة الممتدة حتى يومنا هذا هي الحلقة الأحدث والأكثر استدامة وتشعباً وخطورة في سلسلة محاولات وحركات وتكتلات عبر التاريخ اليهودي، من بينها محاولات قام بها اليهود النافذون في الغرب في العصر الحديث في مراحل سابقة لتأسيس الحركة الحالية، ومن أهم هذه الحركات ما يلي:
– مجموعة شفتاي ليفي، ظهرت في منتصف القرن الثامن عشر، وكانت حركة صهيونية شديدة التعصب، حتى إن مؤسسها ليفي ادّعى أنه المسيح المنتظر، لكنها لم تستمر طويلاً ولم تحقق أياً من أهدافها.
– ثمة حركة صهيونية ظهرت في روسيا بالقرن التاسع عشر أيضاً، غير أن صيتها لم ينتشر كثيراً، وقد عملت هذه الحركة بشكل رئيس على شراء أراض في فلسطين وإنشاء تجمعات استيطانية يهودية عليها، بغرض ترحيل مجموعات من يهود روسيا للعيش فيها، بعد تعرض اليهود لمذابح على أيدي الروس.
– في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أسست عائلة روتشيلد اليهودية الشهيرة حركة أُطلق عليها «حركة رجال المال اليهود»، وقد شاركها في تأسيس الحركة بعض أثرياء اليهود النافذين في أوروبا، من أهمهم رجل المال والأعمال اليهودي المعروف مونتفيوري، وقد أحدثت الحركة زخماً قوياً لأوضاع اليهود في أوروبا، وأعطت دفعة هائلة لتطلعات اليهود بشكل عام وأطماعهم في اغتصاب فلسطين لإنشاء وطن قومي لليهود عليها بشكل خاص، إذ أنفقت الحركة، كسابقتها وأكثر، مبالغ طائلة لشراء أراضٍ في فلسطين وبناء مستوطنات يهودية عليها، ساعدهم في هذا نفوذهم المتغلغل في أوساط الحكومات الأوروبية وصناع القرار هناك.
يُذكر أن عائلة روتشيلد معروفة بثرواتها الطائلة ونفوذها المتغلغل في أوروبا وحكوماتها، فهي أشهر السلالات المصرفية الأوروبية التي مارست تأثيراً كبيراً على التاريخ الاقتصادي، وبشكل غير مباشر على التاريخ السياسي لأوروبا، لحوالي 200 عام(1).
تنطوي الصهيونية في نسختها الحالية على تنويعات وتشعُبّات عدة ظهرت بعد تأسيسها، حيث ظهرت «الصهيونية السياسية»، و«الصهيونية العملية»، تبعتهما «الصهيونية التوفيقية» التي حاولت التوفيق بين مختلف التيارات الصهيونية، وفي مراحل لاحقة ظهرت الصهيونية الثقافية، والدينية، والديمقراطية، والعُمّالية، والتصحيحية، والراديكالية، ولكل تيار منها توجهه وأسلوبه الخاص، بيد أنه لا توجد بينها اختلافات جوهرية، أي أنها جميعها لا تختلف في الهدف النهائي، وهو ما أكده د. عبدالوهاب المسيري، على سبيل المثال، في موسوعته أيضاً(2).
ثانياً: أهم المنظمات الصهيونية حول العالم:
تعددت المنظمات الصهيونية وانتشرت في شتى بقاع الأرض، ولكل منها دوره الذي أُنشئ من أجله، لكنها تتضافر وتتكامل جميعاً في تنسيق دقيق فيما بينها، لخدمة الكيان «الإسرائيلي» والمآرب الصهيونية بوجه عام، ولأن الصهيونية بحكم أطماعها تسعى خلف من يمتلك النفوذ والقوة، فمن الطبيعي أن توجد أقوى هذه المنظمات وأكثرها خطورة على أراضي الولايات المتحدة الأمريكية، وفيما يلي أهم المنظمات الصهيونية وأخطرها في العالم:
1- «المنظمة الصهيونية» (المنظمة الصهيونية العالمية): هي البناء التنظيمي الأول الذي تأسس انطلاقاً من مؤتمر بازل عام 1897م برئاسة تيودور هرتزل، كما أسلفنا، بحيث إنها الترجمة العملية الأساسية الفاعلة للفكر الصهيوني، والأساس الذي بُني عليه جميع ما بعده، وما زالت المنظمة تمارس دورها بفاعلية حتى اليوم، لا سيما ما يتعلق منها برعاية الأنشطة الصهيونية في أوروبا والتنسيق فيما بينها، بالإضافة إلى الدور الخطير الذي تؤديه مع دوائر صنع القرار السياسي في الدول الغربية الكبرى خدمة لمصالح لكيان «الإسرائيلي» الصهيوني، والأنشطة الصهيونية بوجه عام.
2- «الوكالة اليهودية»: عام 1922م، قامت المنظمة الصهيونية بتأسيس الوكالة كذراع تتولى مهام الاستيطان اليهودي عملياً على أرض فلسطين، بما في ذلك تشجيع هجرة اليهود إليها والترويج لها وتنظيمها وتقديم التسهيلات اللازمة لتتابع موجاتها، وما زالت هذه الوكالة حتى اليوم تمارس نشاطها الذي توسع في هذا الإطار، من خلال مكاتبها المنتشرة في عدد من الدول الكبرى.
3- «اللجنة الأمريكية الإسرائيلية للشؤون العامة» (آيباك- AIPAC): تم تأسيسها في الولايات المتحدة عام 1959م، وتُعدّ من أهم جماعات الضغط في الداخل الأمريكي لصالح الكيان الصهيوني، بما في ذلك التأثير على المواقف الأمريكية من القضية الفلسطينية في المحافل الدولية، من خلال علاقاتهم بالجهات النافذة والشخصيات المؤثرة لا سيما أعضاء الكونجرس ومرشحي الرئاسة الأمريكية الذين يسعون دوماً إلى كسب أصوات اليهود والصهاينة هناك، إضافةً إلى أشكال الدعم المختلفة والمؤثرة التي تقدمها المنظمة لهم لاستمالتهم وضمان دعمهم في المقابل.
4- «رابطة اليهود الإصلاحيين في أمريكا» (ARZA): واحدة من أهم المنظمات الصهيونية التي تعمل على الأراضي الأمريكية منذ عام 1973م، وهي تجمّع لما يُعرف بـ«اليهود الإصلاحيين»، وتمارس ضغوطاً شديدة على دوائر صنع القرار الأمريكي، لتوفير الحماية للكيان الصهيوني والدفاع عن مصالحه.
5- «منظمة المرأة الصهيونية في أمريكا» (HADASSah): أضخم التنظيمات النسائية الصهيونية حول العالم، تأسست على يد الصهيونية البارزة هنريتا زولد، عام 1912م وتركز نشاطها من حيث الأساس على نشر أفكار إيجابية عن اليهود لتجميل صورتهم في أعين الأمريكيين وغيرهم، بالإضافة إلى العديد من الأنشطة الأخرى المسخَّرة لخدمة الصهاينة بشكل عام، لا سيما كيانهم اللقيط.
______________________
(1) The New Encyclopaedia Britannica, Encyclopedia Britannica, Inc., 15th ed, Chicago 1985.
(2) المسيري، عبدالوهاب: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، دار الشروق- مصر، الطبعة الأولى سنة 1999م، المجلد السادس، ص15 وما بعدها.