اتفقنا من قبل أن الهدف من إطالة النفس في ضرب الأمثلة هو أن أدربك على مهارة تدبر الآيات واستخلاص الواجبات العملية منها، وفي هذا المقال نختم هذه الرحلة المباركة.
قال تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) (آل عمران: 159)؛ افحص وتأمل أمرَ اللهِ نبيَّه بمشاورة أصحابه ليقتدي به من بعدَه فغيرُه أولى بالمشورة؛ لأنه مؤيد بالوحي وغيرُه ليس كذلك، لذا سأحرص بعد قراءتي لهذه الآية على أن أستشير أصحاب العقل والرأي التماساً للرأي الشديد والعقل الرشيد.
قال تعالى: (وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ) (آل عمران: 187)؛ فحص الحسن البصري هذه الآية وتأملها جيداً ثم قال: وهي في كل من أوتي علمَ شيءٍ من الكتاب، فمن علم شيئاً فليعلِّمه وإياكم وكتمان العلم فإنه مهلكة.
هناك آيات تهدف إلى تصحيح المفاهيم وهي تخاطب العقل والوجدان
لذا مهما قلَّ علمي لن أبخل به؛ «بلِّغوا عني ولو آية»، وسأُذكّر غيري بالله، أقدّم له نصيحة أو أحضه على خير أو أحذره من شر أو أدله على فرصة ثواب أو أحول بينه وبين عمل يؤدي به لتصلية عذاب.
قال تعالى: (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً) (النساء: 8)؛ كيف العمل بهذه الآية؟ وهل هي خاصة بالميراث وتقسيمه فحسب؟ قال الشيخ السعدي: ويؤخذ من هذه الآية أن كل من تطلّع وتشوّق ممن حضر مع الإرث له أن يعطى ما يتيسر منه، وفوق ذلك تحثك الآية على أن تبذل لهذا المحتاج قولاً طيباً كدعائك له بالبركة فيه وأن يوسع عليه.
قال تعالى: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) (النساء: 140)، ما المستفاد من هذه الآية في الجانب العملي؟ المساواة بين العاصي ومن جالسه من غير إنكار عليه إقراراً لمعصيته.
لذا، لن أجلس مع صاحب معصيه إلا أن أنهاه عن معصيته، فإما أن أزيل منكره أو أزول عنه.
قال تعالى: (وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ) (الأنعام: 70)؛ من خلال فحصي لهذه الآية خرجت بأمرين:
الأول: التذكير بالقرآن واستعماله في نصح غيري وإرشاده.
.. وغيرها تذكرة ورقائق وتشتمل على القصص وأخبار الغيب وهذه تخاطب القلب
الثاني: أن المعاصي قيدٌ لصاحبها وحبس له عن الجَوَلان في فضاء الإيمان، وحائل بين العبد وسماء التوفيق؛ لذا سأحرص كل ليلة على تجديد توبتي قبل نومي حتى لا أكون محبوساً بها في الدنيا ولا في الآخرة.
قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ) (الأعراف: 201)؛ افحص متى يمس طائف الشيطانِ العبدَ؟
والجواب: أقرب ما يكون هذا المس الشيطاني عند الغضب، قال سعيد بن جبير: هو للرجل يغضب الغضبة فيذكر الله فيكظم الغيظ.
لقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا»، وهذا في الناس عزيز ونادر، أن يقول الإنسان كلمة الحق دائماً، فإن أكثر الناس إذا غضب لا يتوقف عما يقول.
فعملي هنا أن أستعيذ بالله عند الغضب، أو ألزم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: «إذا غضب أحدكم فليسكت» (قالها ثلاثاً) (رواه أحمد بإسناد حسن).
قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) (الأنفال: 2)؛ قال القائل: إذا ذُكر المحبوب عند حبيبه ترنح نشواناً وحنّ طروباً، فهل يحضر قلبي عند القرآن والذكر؟ هل أفرح بالقرآن خاصة إذا علمتُ من معانيه ما لم أكن أعلم؟ هذا هو العمل الذي سأحرص عليه إن أردت أن أحقق شروط الإيمان كما ورد في الآية.
قال تعالى: (قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا) (يونس: 89)؛ الخطاب هنا لموسى، وهارون، عليهما السلام، على أنه لم يذكر الدعاء إلا على موسى وحده، فقد كان موسى يدعو، وهارون يؤمّن على الدعاء.
والعمل المستفاد أنني سأحرص على الخشوع عند سماع أي دعاء مع تأميني عليه طمعاً في الإجابة والتماسها، فإن الدعاء يستجاب للداعي والمؤمِّن عليه.
.. وأخرى تدعو إلى مكارم الأخلاق وتحذر من مساوئها وتهدف إلى تعديل السلوك
قال تعالى: (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً) (الكهف: 82)؛ فحصُ هذه الآية يشدك شداً إلى العمل الصالح، ويحفزك عليه ليس فقط لضمان نجاتك، بل نجاة أولادك بسببك، حيث سأزيد من عملي لأجلهم، قال ابن كثير: في تفسيره لهذه الآية: فيه دليل على أن الرجل الصالح يُحفظ في ذريته، وتشملهم بركة عبادته في الدنيا والآخرة بشفاعته فيهم، ورفع درجاتهم إلى أعلى درجة في الجنة لتقرّ عينه بهم.
قال تعالى: (لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ) (النساء: 123)؛ فالإيمان ما وقر في القلب وصدّقه العمل، بل إن أهدافي وطموحاتي لن تتحقق بالأماني والدعاء فحسب، لا بد مع الدعاء من عمل يرفعه، كما قال وهب بن منبه: مثَل الذي يدعو بغير عمل كمثل الذي يرمي بلا وتر، ومثْله الذي تغره الرؤى والأحلام، ويتكل عليها دون سعي وبذل للوصول للأهداف.
أقسام العمل بالقرآن
وبعد هذه الجولة السريعة في بعض آيات القرآن، رأينا خلالها كيف أن فحص الآيات يعينك على التدبر فيها واستخراج الواجبات العملية.
وقبل أن نختم هذا الفصل نتحدث عن أقسام الآيات من حيث الهدف العملي الذي تستهدفه والجزء الذي تخاطبه في الإنسان:
الأول: آيات تهدف إلى تصحيح المفاهيم والتصورات، وهذا القسم يخاطب العقل والوجدان.
عليك أن تتدبر جيداً لتعرف المطلوب منك في رسائل ربك في كتابه الكريم
الثاني: أوامر ونواهٍ، وهذه الآيات تخاطب غالباً الجوارح.
الثالث: عبادات قلبية مثل التوكل والصبر والرضا واليقين، وهذه تخاطب القلب.
الرابع: آيات تهدف إلى علاج أمراض قلبية؛ كالحسد والنفاق والكبر، وهذه تخاطب القلب.
الخامس: آيات تدعو إلى مكارم الأخلاق وتحذر من مساوئها، وهذه تهدف إلى تعديل السلوك.
السادس: آيات تذكرة ورقائق وتشتمل على القصص وأخبار الغيب، وهذه تخاطب القلب.
وهكذا تتنوع الأعمال المطلوبة منك في القرآن، فهي ليست لوناً واحداً يخاطب الجوارح فحسب، وتتنوع معها مناطق التأثير؛ ولذا كان عليك أن تتدبر جيداً لتعرف المطلوب منك في رسائل ربك في كتابه الكريم، وتعرف كيف تنفذها بعد انتهاء تلاوتك وقراءتك.