تشهد الأعياد اليهودية تصاعدًا في حجم الاعتداء على القدس والمسجد الأقصى، وتشهد السنوات الأخيرة ترسيخ هذه الأعياد لتغيير الطابع الثقافي وتزييف هوية القدس المحتلة، وتصعيد العدوان على «الأقصى» ومكوناته البشرية، في سياق إحلال هوية جديدة دخيلة على المدينة.
ويُعدّ عيد «الأنوار/ الحانوكاه» أنموذجًا لتسخير مختلف الأعياد اليهوديّة لفرض المزيد من السيطرة على المدينة المحتلة، فقد حوّله الاحتلال إلى واحدٍ من مواسم العدوان على «الأقصى»، نظرًا لامتداده فترة طويلة مقارنة بأعيادٍ أخرى، إلى جانب تضمنه مظاهر احتفاليّة تُساعد الاحتلال على فرض هويته وروايته، وفي هذا العام يحلّ هذا العيد ما بين 26 ديسمبر الجاري و2 يناير 2025م.
تعريف «الحانوكاه» وأبرز طقوسه
تعني كلمة «الحانوكاه» بالعبرية التدشين، ففيه تم تدشين «المذبح» في «المعبد»، بحسب روايات اليهود، ويُطلق عليه عيد «الأنوار»، ففيه «الفرحة بإعادة عبادة الرب في بيت المقدس»، ويستمر هذا العيد 8 أيام.
وبحسب موسعة اليهود واليهوديّة للمسيري رحمه الله، لم يفرض التوراة هذا العيد، بل ابتدعه الكهنة، إضافة إلى عيد «المساخر» في سياق حدث تاريخيّ.
يرتبط عيد «الحانوكاه» برواية يهودية عن انتصار الحشمونيين على الإغريق في القرن الثاني قبل الميلاد، واستبدال حكم يهودي في القدس بالحكم اليوناني، وإعادة للشعائر اليهودية في «المعبد».
أما عن طقوس العيد، فتتضمن الرواية اليهوديّة تفاصيل كثيرة مرتبطة بالشمعدان؛ لذلك صُمِّم «شمعدان مينوراه» خاص بهذا العيد، وله 9 أفرع، فتُوقَد شمعة في الليلة الأولى من العيد، ثم تُضاف شمعة ثانية في اليوم التالي، ويتم إضافة شمعة جديدة مع كل يوم من أيام العيد حتى اليوم الثامن، إضافة إلى الصلوات الخاصة بهذا العيد.
انعكاسات «الحانوكاه» على القدس و«الأقصى»
نتيجة ارتباط «عيد الحانوكا» بإنارة الشمعدان، يشهد المسجد الأقصى بالتزامن مع هذا العيد محاولات لإدخاله إلى «الأقصى»، وإضاءته في المسجد، وهو ما يجري في ساحة البراق المحتلّ، إذ يتم نصب شمعدان ضخم ويتم إضاءته طيلة أيام العيد، ومع عدم استطاعة المستوطنين إدخال الشمعدان إلى «الأقصى» خلال الاقتحامات، فإنهم يستعيضون عن ذلك بإشعال «الولاعات» أو الشموع خلال اقتحاماتهم.
ففي ثالث أيام العيد في 10/ 12/ 2023م أضاء عددٌ من المستوطنين 3 شمعات في ساحات «الأقصى» الشرقية، في إشارة إلى اليوم الثالث من العيد، وفي اليوم التالي (11/ 12/ 2023م)، تجول أحد المستوطنين بشمعة بعد إضاءتها، وأظهر مقطع مصور قراءة المستوطن لصلواتٍ خاصة وهو يحمل الشمعة(1).
وعلى غرار الأعياد اليهوديّة، يشهد «الأقصى» جملة من الاعتداءات، من بينها محاولة إشراك المزيد من المستوطنين في اقتحام «الأقصى»، وما يتصل بها من أداء للطقوس اليهوديّة الجماعية في ساحاته الشرقية، وأداء الرقصات الليليّة في أزقة البلدة القديمة وأمام الأبواب، إضافةً إلى تنظيم مسيرةٍ ليلية تجول في أرجاء البلدة القديمة، وتمرّ أمام أبواب المسجد الأقصى.
الإجراءات الأمنية وتأثيرها على الفلسطينيين
تفرض سلطات الاحتلال خلال الأعياد اليهوديّة قيودًا أمنية مشددة، وقد ازدادت هذه القيود منذ 7 أكتوبر 2023م؛ إذ تصعّد من نشر قواتها في أزقة البلدة القديمة، وأمام مداخلها، وتفرض المزيد من القيود المشددة أمام أبواب «الأقصى»، إضافةً إلى إقامة نقاط التفتيش والحواجز الثابتة وغير الثابتة، في محاولة لعرقلة حركة الفلسطينيين، فيما تفتح المجال أمام المستوطنين للتجول بحرية وممارسة طقوسهم في هذا العيد.
وتؤثر هذه الحواجز بشكل كبيرٍ على حياة الفلسطينيين؛ إذ تفرض عليهم قوات الاحتلال التفتيش المتكرر، وتقيّد حركتهم، وتأخر تنقلاتهم في المدينة المحتلة، خاصة أن بعض الأنشطة التهويديّة التي تقوم بها أذرع الاحتلال تفرض قيودًا مشددة على حركة الفلسطينيين، على غرار المسيرة التهويديّة.
وفي السياق نفسه، ومع تزايد أعداد المستوطنين الذين يؤدون الصلوات العلنية أمام أبواب «الأقصى» وفي أزقة البلدة القديمة، تغلق قوات الاحتلال المحال التجارية الفلسطينية بالقوة، ولا تسمح لهم بمتابعة أعمالهم، بذريعة حماية المستوطنين.
«الحانوكاه» وتزييف الهوية الثقافية للقدس
لا تقف آثار هذا العيد عند العدوان على «الأقصى» فقط، إذ تستهدف أذرع الاحتلال هوية القدس وما يتصل بمظهرها العام خلال العيد، فمع ارتباط العيد بالشمعدان، وإضاءة الشموع وما إلى ذلك، تعمل أذرع الاحتلال التهويديّة وخاصة بلديته في القدس على إضفاء طابع يهوديّ على المدينة بذريعة الاحتفال بالعيد، ومن أبرز الفعاليات التهويديّة التي تقوم بها البلدية ما يأتي:
– العروض الضوئية وإضاءة سور القدس التاريخي؛ إذ تعمل بلدية الاحتلال على إقامة عروض ضوئية متطورة على سور القدس الذي يحيط بالبلدة القديمة، ووضع صور وأشكال تهويديّة، ترتبط برواية الاحتلال حول القدس، والعناصر التهويديّة الأخرى.
وإلى جانب هذا الأمر، تنظم البلدية عروضًا أخرى في عددٍ من المواقع، تترافق مع الموسيقى والأغاني الخاصة بهذا العيد، وتُسمع عادةً حتى في المناطق التي يقطنها الفلسطينيون.
– نشر أعداد كبيرة من «الشمعدانات» في القدس المحتلة؛ إذ تضع بلدية الاحتلال شمعدانات ضخمة مضاءة في ساحة حائط البراق المحتلّ، وفي مناطق أخرى داخل البلدة القديمة وفي خارجها.
– تعمل أذرع الاحتلال على تزيين الساحات العامة والشوارع المحيطة بالأضواء، خاصة في الشطر الغربي من القدس المحتلة، وفي الأحياء التي تشهد وجودًا استيطانيًا كثيفًا في الشطر الشرقي من المدينة.
الأعياد اليهوديّة والأخطار المتصاعدة
رسخ الاحتلال أعياده مواسم لفرض المزيد من السيطرة والتحكم على «الأقصى»، ومع استفراد أذرعه المتطرفة بالمسجد، ومضيها قدمًا في عدوانها عليه، وخاصة ما يتعلق بأداء الطقوس العلنية، فإن شهية الاحتلال ستصبح مفتوحة لتحقيق المزيد من القفزات في السيطرة على المسجد، خاصة مع استمرار القيود المفروضة على القدس منذ السابع من أكتوبر من العام الماضي.
وأمام حالة ضعف الوجود الإسلامي في «الأقصى»، وغياب أي مواقف حقيقيّة للأخذ على يد الاحتلال، فإن مخططات الاحتلال الرامية إلى تقسيم المسجد الأقصى مكانيًا، أو السيطرة عليه بشكلٍ كامل قادمة لا محالة.
وأخيرًا، بات من الضروري أن تستعيد مختلف الأطراف في الأمة فاعليتها، وأن يتولى الفاعلون البارزون، من أحزاب وقوى وهيئات زمام المبادرة لكسر قيود التفاعل مع قضايا القدس وفلسطين، والمسجد الأقصى بشكلٍ خاص، فقد استطاع الاحتلال المضي قدمًا في مخططاته من دون وجود جبهة قوية تستطيع التأثير على واقع الأحداث في المدينة، أو الأخذ على يدي الاحتلال.
______________________
(1) منشور للقدس البوصلة على منصة «إكس»، 12/ 12/ 2023م، https://tinyurl.com/3hprkytb.